نعيش هذه الأيام في الجزائر محطة جديدة من محطات الصراع السياسي التي تعودنا عليه منذ سنوات، على رأس السلطة في البلد، بالأشكال الذي تعودنا عليها وحتى بالتوقيت الذي نعرفه، الذي عادة ما يكون مرتبطا بفترة الدخول الاجتماعي، كما هو الحال هذه الأيام، والجزائر تستحضر ذكرى أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988 التي استعمل فيها الشارع كحل أخير، بعد فشل العصب السياسية في حسم صراعاتها داخل مؤسسات النظام، على كثرتها.
صراعات لا يمكن فهمها من دون العودة إلى التذكير بأساسيات اللعبة السياسية الوطنية، التي يأتي على رأسها أن هذه الصراعات التي يكتنفها الكثير من الغموض، لا تحسم داخل المؤسسات السياسية الرسمية، مثل البرلمان، وأنها صراعات يختلط فيها السياسي بالاقتصادي والمؤسساتي بالشخصي، بل بالذاتي، كما يمكن أن نستشفه من خلال الهجوم على بعض الوزراء، الذين تم التركيز عليهم من قبل النواب وجزء من الإعلام، وعلى عيوبهم الفعلية والمتخيلة بشكل مقصود، بمناسبة تقديم برنامج الحكومة أمام البرلمان هذه الأيام، وكأن المطلوب تقديم رؤوس بعض الوزراء كفدية لضمان استمرار المشهد السياسي الشكلي على حاله، في انتظار ما سيطرأ من تغيير على ميزان القوى السياسي الحالي على المديين القصير والمتوسط.
تماما كما فعلت حركة مجتمع السلم، وهي تسحب ملتمس الرقابة الذي هددت به، بحجة قرب مؤتمر القمة العربي الذي سيعقد بالجزائر، بعد أقل من شهر من الآن. تعرف الحركة أن الرئيس تبون يعول عليه كثيرا، لكسب نوع من الشرعية على المستوى العربي، كما فعل كل رؤساء الجزائر قبله، فأحجمت عن الذهاب في مشروعها لأكثر من مرحلة التهديد، لعلمها أنه من الصعب على الحركة أن تجمع الأصوات الضرورية، للذهاب في تجسيد سحب الثقة من الحكومة، وأن نتائج مثل هذا الموقف قد تكون سابقة خطيرة، تُحسب على قيادة الحركة لاحقا، التي تكون قد فضلت الإحجام عن مشروعها وحل هذا الإشكال خارج قبة البرلمان، مع الفاعلين السياسيين الحقيقيين، بدل التركيز على رئيس وزراء لا سلطة فعلية له عندما يتعلق بهذه الأمور، هو الذي لم يجد ما يفعله إلا البكاء على نتائج تسييره الاقتصادي الكارثي، وتقديم وعود عائمة لبرلمان رافض أصلا، أو غير قادر على الاستحواذ على صلاحياته، مهما كانت متواضعة. يحصل هذا في وقت يتم فيه توجيه الرأي العام نحو «أعداء وهميين» يكونون هم سبب المصاعب الاقتصادية للحكومة كوسيلة للهروب من تحديد هوية الأطراف المعادية لمشروع الرئيس السياسي، بمن فيهم المتمترسون داخل مؤسسات الدولة المركزية. مشروع يكون من الأسهل للجميع اتهام الحكومة وبعض الوزراء بالفشل في تجسيده على أرض الواقع، والتلويح في الوقت نفسه بالقسوة في استعمال النص القانوني الردعي ضد بعض الفاعلين الاقتصاديين الصغار، وجزء من بيروقراطية الدولة، بدل البحث عن الأسباب الهيكلية التي تنتج مثل هذه الظواهر الاقتصادية والاجتماعية على غرار الندرة بشكل يكاد يكون منتظما. صراعات تبقى في الغالب مستترة وغير ظاهرة للمواطن، رغم أنه يحس بوجودها من خلال الآثار التي تتركها على حياته اليومية وقدرته الشرائية، كما هو حاصل هذه الأيام من غلاء فاحش وندرة غريبة في السلع الأساسية ذات الاستهلاك الواسع، كما هو حاصل مع الحليب والزيت. زيادة على ما يصله من شائعات حول صراعات داخل أجهزة النظام وبين رجاله. لم تغادر النظام السياسي منذ نشأته، تزداد حدة وتخف في بعض المحطات، لكنها تبقى حاضرة على الدوام، كخلفية سياسية. على عكس بعض الناشطين السياسيين والأحزاب المعارضة، الذين يمكن أن تصلهم بعض تداعيات المشهد السياسي المتشنج وراء الستار، على شكل زيادة في منسوب المضايقات والتحرش، كما هو حاصل هذه الأيام، على شكل منع من السفر لبعض الجزائريين، حسب بعض المصادر الحقوقية، في وقت تم فيه إغلاق فعلي للساحتين السياسية والإعلامية الوطنية، وزادت فيه النزعة إلى الهجرة إلى الخارج، من قبل الكثير من النخب السياسية والثقافية، كما يتداوله الكثير من الأخبار المتواترة على الساحة الوطنية.
صراعات تزداد حدتها في الغالب عندما يصل رئيس الجمهورية إلى منتصف عهدته الرئاسية الأولى، كما حصل مع رؤساء سابقين، على غرار الجنرال زروال الذي فُرضت عليه الاستقالة في منتصف عهدته، من قبل عصب مناوئة له، ومع بوتفليقة لاحقا الذي عرف كيف يقاوم هذه النزعة المعادية لظهور رجل قوي على مستوى الرئاسة في الجزائر، حين يبدأ يفكر في عهدته الثانية وهو ينطلق في التحضير لها، كما يفعل الرئيس تبون في الفترة الأخيرة، بعد الانطلاق في إنجاز نوع من الحوصلة الذاتية لنصف عهدته التي عرفت محطات صعبة نتيجة تداعيات أزمة كوفيد 19 والوعكة الصحية التي ألمت به شخصيا، لنكون بذلك أمام إحدى أساسيات العمل السياسي في الجزائر، التي تخبرنا بأن الرئيس في الجزائر لا يكتفي بعهدة رئاسية أولى، ولا حتى ثانية وثالثة، كما فعل بوتفليقة إلا إذا أرغم على ذلك، كما حصل مع من غادروا المنصب مكرهين، بأشكال مختلفة، مثل بن بلة وبوضياف.
استمرارية سياسية يطالب بها أي رئيس جزائري، حتى إن بدا ضعيفا وغير متحكم في قواعد اللعبة في بداية عهدته، كما كان الحال مع أكثر من رئيس، بمن فيهم بومدين نفسه عندما وصل إلى قصر المرادية في 1965، ليكتشف الرئيس مصادر قوة جديدة وهو على رأس السلطة، بل قد يتحول إلى رجل قوي مؤقتا على الأقل، كما كان الحال مع الرئيس الشاذلي. الذي يحتفل البلد بالذكرى العاشرة لوفاته، من دون أن نعرف بالضبط هل استقال أم أُقيل، في مطلع 1992، ما يجعلنا نختتم كلامنا بالحديث عن دور قيادة الجيش كأهم أساسيات الفعل السياسي في الجزائر التي عرفت كيف تحسم في السابق الصراعات بين أبناء السلطة في كل مرة، للتساؤل عن مدى قدرتها على الاستمرار في إنجاز المهام التقليدية نفسها التي تعودت عليها تاريخيا، بعد حالة الاضطراب التي عاشها البلد في السنوات الأخيرة.. كانت قيادة الجيش في صلبها.. في وقت زادت فيه ضغوط المعطى الإقليمي والدولي وهو يعيش تحولات عميقة لم تفرز كل تبعاتها بعد، جراء الحرب في أوكرانيا، وزيادة منسوب الفوضى في منطقة الساحل، وتشنج العلاقات مع المغرب، بعد وصول إسرائيل إلى الحدود الجزائرية، من دون نسيان ظهور بوادر ضغط أمريكي جديد، لم تعش الجزائر مثله في السابق، عرفت كيف تتعامل معه ببراغماتية كبيرة عندما كانت تبيع الغاز إلى أمريكا وتندد بعدوانها على الشعب الفيتنامي.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات