أخبار عاجلة

غوانتانامو تونس تحت ظلّ حكم قيس سعيّد

في 1989 كنت صحافيا مبتدئا بالكاد يتدرب. في شهر رمضان من تلك السنة كلّفتني الصحيفة التي كانت تشغّلني بإنجاز تحقيقات عن طقوس رمضان في بعض الدول الإسلامية. لم يكن هناك إنترنت ولا غوغل ولا معلومات وصور تتدفق بالسهولة المتاحة اليوم. كان لا بد من العمل مع سفارات الدول التي وقع عليها اختيارنا، وبينها تونس وباكستان كما أذكر.
أتممتُ العمل ونُشر في حلقات لاقت استحسان الناس وأيضا الملحقين الإعلاميين والثقافيين. لكن قبل أن ينتصف نهار نشرِ الحلقة الخاصة بتونس اتصلت الملحقة الثقافية التي استقبلتني ووفرت لي المعلومات (فعلت وفق مصلحتها وليس وفق ما كنت أريد) لتوبّخني. أقامت الدنيا احتجاجا لأن التحقيق لم ينل رضاها، ليس لأنه أخلَّ بالموضوعية أو فيه تضليل أو إساءة. لا، فقط لأنني ارتأيت التركيز على الجانب الشعبي الفلكلوري، وكان أفضل ما في الموضوع، بينما كانت صاحبتنا تريد أن يكون عملي فرصة للترويج لما تراه هي أفضالا من الرئيس زين العابدين بن علي ونظامه على التونسيين في الشهر الفضيل. من بين ما قالت باستعلاء: “بالله عليك.. أنت من كل وش حكيت لك ساعات وساعات عجبك كان المسحراتي وطبوله؟!”.
أسوق هذه الواقعة لأُبيّن الحساسية العجيبة لنظام الرئيس المخلوع (الراحل) بن علي وبطانته.
لكن مهلا.. فوق الهوس بالسمعة والحساسية السياسية، كان “الزين” مهووسا بالأمن إلى مستوى يصعب تصديقه.
جزء من الهوس مشروع في بلد قائم على الخدمات والسياحة، وسط انتشار الإرهاب إقليميا ودوليا منذ العقد الأخير من القرن الماضي. ومشروعٌ أيضا مع تفريخ تنظيم القاعدة خلايا وفروع منَحها حق الامتياز للتصرف (القتل) محليا مثلما تمنح “ستارباكس” أو “ماكدونالدز” الامتياز لمؤسسات محلية في أي بلد لتبيع القهوة والشاي المجمّد والهمبرغ.
غير أن جزءا من هوس بن علي ونظامه كان منبعه الخوف والتمسك بالبقاء. الإرهاب كانت حقا أراد به “الزين” باطلا.
لم يتأخر الرجل كثيرا في بناء نظام أمني قمعي يتوجس من كل شيء، وكل الناس متهمون في نظره إلى أن يثبت العكس. ثم بنى على ذلك منظومة جعلت تونس في عهده سجنا كبيرا يشك السجانون فيه حتى في الطيور المهاجرة أن تكون منتسبة إلى تنظيم إرهابي.
ضمن هذا المفهوم يجب وضع مأساة شبان جزائريين قادهم حظهم العاثر إلى السجون التونسية.

حدث هذا في خريف 2008: ركب نحو أربعين شابا قاربا متهالكا من أحد شواطئ مدينة عنابة في أقصى شمال شرق الجزائر، وأبحروا نحو إيطاليا بحثا عن حياة أفضل. في منتصف المغامرة ضل الشبان طريقهم فانتهى بهم المطاف في المياه الإقليمية التونسية. اعتقلهم حرس الشواطئ التونسيون وبدأت مأساة شبيهة بمأساة سجن غوانتانامو (مع فرق أن الأمريكيين لم ينكروا يوما وجود السجن ومَن فيه).
أخفى الأمن التونسي الجميع في سجونه سيئة الصيت. ولأنه نظام أحمق اعتقد أن إخفاءهم سيُريحه منهم.. نسيَ أن إخفاء مصير 40 إنسانا في هذا الزمن أمر مستحيل. ونسيَ أن هؤلاء المساكين لديهم عائلات وأمهات تحركهن الغريزة الأقوى من كل قوانين وسجَّاني الأرض.. غريزة الأم.
طيلة 14 سنة لم تتوقف عائلات الشبان المختفين عن السؤال علنا عن مصيرهم. كانت على يقين أن أبناءها على قيد الحياة في تونس. نظم الأقارب والأصدقاء احتجاجات أمام القنصلية التونسية في عنابة وراسلوا السلطات التونسية والجزائرية. سافروا إلى تونس وإلى الجزائر العاصمة، لكن حيطان القمع الإداري في البلدين كانت أقوى من ألمهم جميعا.
في منتصف الشهر الجاري تلقت بعض العائلات استدعاءات حضور (في اليوم التالي!) إلى محكمة الكاف التونسية، لأمر يخص أبناءها. في المحكمة تبيّن أن الأمر يدخل ضمن عمل هيئات العدالة الانتقالية في تونس، وأن العائلات استُدعيت للاستماع إليها في موضوع إساءة معاملة مهاجرين أجانب وليس لحضور محاكمة أبنائها (واستطرادا الإفراج عنهم). ثم قيل لهم أن هناك خللا في التبليغ أو الصياغة!
الأهم من كل هذه التفاصيل، هذا الغياب الفادح للفعالية الإدارية وللإنسانية وانعدام الشعور بالآخر على ضفتي الحدود. ألا يقال يوميا في الإعلام الجزائري أن مسؤولي البلدين “سمن على عسل”؟ أليس التنسيق الأمني والسياسي بين أجهزة البلدين في أبهى صوره؟
اتصال هاتفي من وزير جزائري إلى نظيره التونسي كان يكفي لإنهاء المأساة في بدايتها. الصمت الذي اختارته السلطات الجزائرية يكمِّل إنكار نظيرتها التونسية. طيلة هذه السنوات الشاقة والمؤلمة اختارت السلطات الجزائرية تصديق ادعاء نظيرتها التونسية عن أن الجزائريين المعتقلين في تونس عموما، موقوفون في قضايا لا تتعلق بالهجرة. هذا استسهال يمليه التكييف الرسمي التونسي، وبحاجة إلى شيء من الجدية والمراجعة.
اليوم تبدو المأساة أقرب إلى طريق مسدود. اعتراف الدولة التونسية بما فعلت بهؤلاء المساكين مستبعد، لأن ذلك سيفتح عليها أبواب الأسئلة عن إنكارها الذي استمر 14 سنة. ويثير أسئلة المسؤولية القانونية والأخلاقية.
واعتراف السلطات الجزائرية أمر مستبعد كذلك لأنه سيحرج تونس ويطرح أسئلة حول الصمت الجزائري 14 سنة، وأسئلة المطالبة بالعدالة ورد الاعتبار. كل هذا سيتطلب الضغط على السلطات التونسية الحالية (ما وقع تتحمل تبعاته الدولة التونسية وليس رئيسا أو مسؤولا بعينه). هذا الأمر يفتح أبواب أزمة ليس هذا وقتها ولا أحد من البلدين يريدها بالنظر إلى حاجة كلاهما للآخر.
هناك حل وسط يبدأ بنزع القضية من بين أيدي البيروقراطيين في البلدين، ثم يتدخل الرئيس تبون لدى نظيره قيس سعيّد لتسويتها بطريقة لائقة تحفظ ماء وجه الجميع.
لا يمكن أن تستمر مأساة هؤلاء الشبان الذين سُرقت أجمل سنوات أعمارهم (بعضهم كانوا في السابعة عشرة يوم إخفائهم) بينما تقيم حكومات أخرى الدنيا لإنقاذ مواطنيها من السجون الأجنبية وبعضهم لواطيون وسفَّاكو دماء وتجار مخدرات.

توفيق رباحي

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات