لم تنتظر موسكو وكييف وقتا طويلا من عمر الغزو الروسي لأوكرانيا لتعلنا فتح أبواب القتال للأجانب. ففي اليوم الثالث من الغزو أعلن الرئيس فولوديمير زيلينسكي البدء بقبول المتطوعين الأجانب في قوة سماها “الفيلق الدولي للدفاع عن أوكرانيا”. بعد أيام قليلة وجَّه الرئيس فلاديمير بوتين كبار مساعديه للاستعانة بالمقاتلين الأجانب. هذه ليست المرة الأولى. سبق أن استعانت أوكرانيا خلال العقد الماضي بأجانب لمساعدة القوميين المحليين في قتال الانفصاليين الموالين للروس. وسبق لروسيا أن فعلت كذلك وشكّلت قوة خاصة اشتهرت عالميا اسمها “فاغنر”.
روسيا اليوم تكرر تجربتها في ليبيا باللجوء إلى “خزَّانها” الغامض من المقاتلين السوريين. أما أوكرانيا فكانت أكثر وضوحا ونشرت مواقعها السياحية وسفاراتها في الخارج إعلانات لإغراء الراغبين في القتال، مثلما تُعلن أي شركة مقاولات عن حاجتها لتوظيف مهندسين أو سائقين.
الفرق بين الحالتين مفهوم. روسيا تنطلق من خبرة وخبث سياسيَين، بينما تصرفت أوكرانيا بتلك الطريقة مدفوعة بسذاجة سياسية جلبت لها الشجب والاحتجاجات من بعض الحكومات. روسيا تؤمن بأن المرتزقة أداة أساسية في حروب مستقبل، فسارعت لاستعمالهم. في المقابل، تعتقد أوكرانيا أن “عدالة” قضيتها تمنحها الحق في اللجوء إلى المقاتلين الأجانب، وبأنهم سيتسابقون إلى الانضمام إلى قواتها.
بعد عشرة أيام من إعلان زيلينسكي، كشفت كييف أن عدد الأجانب الذي تطوعوا للتسجيل لديها ناهز العشرين ألفا، من 52 دولة على رأسها الولايات المتحدة. في الفترة نفسها أعلن وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، أن 16 ألف متطوع من “منطقة الشرق الأوسط”، وفق تحديده، جاهزون للانضمام إلى القوات الروسية. الإعلام الغربي الذي اقترب من نعت السوريين الذين “شحنتهم” روسيا بالمرتزقة الجياع والمتعطشين للقتال، يُصنِّف لجوء أوكرانيا إلى الأجانب بأنه “طلب مساعدة خارجية”. الإعلام ذاته (الفرنسي والبريطاني الذي أتابع أكثر) يبث باستمرار قصص شبان أوروبيين اختاروا ترك عائلاتهم وحياتهم الممتعة وراءهم من أجل “قضية إنسانية عادلة” في أوكرانيا. بدأ الأمر بالأعمال الخيرية من قبيل نقْلِ حليب الأطفال والحفاظات ومتطلبات النساء، ثم بدأ الكلام الصريح عن نقل معدات حربية يقطعون بها آلاف الكيلومترات عبر أوروبا كلها دون أن يوقفهم أحد. الإعلام الروسي بدوره يصف الذين سارعوا للقتال في الصفوف الأوكرانية بالمرتزقة والمغفَّلين، لكنه يعتبر الذين التحقوا بالقوات الروسية “أصدقاء روسيا في العالم”.
“المتطوعون” السوريون حالة مثيرة للاهتمام. طبيعة الصراع الأهلي في بلادهم جعلتهم فئتين على طرفي نقيض: عشاق روسيا وأعداؤها. عشاق روسيا هم حلفاء النظام السوري وأتباعه الذين أنقذهم التدخل الروسي في 2015، ويُروّجون إلى أن ذلك التدخل أنقذ سوريا وأن عليهم اليوم رد الجميل لبوتين. وأعداء روسيا هم أنصار المعارضة بكل أطيافها، الذين يعتبرون أن روسيا دمّرت بلادهم ومجتمعهم وحرمتهم من فرحة الإطاحة بنظام الأسد بعد أن كان هذا الهدف في متناول يدهم.
مثلما جلبت روسيا هؤلاء إلى شرق ليبيا لدعم قوات الجنرال حفتر، وتركيا أولئك إلى طرابلس لدعم حكومة الوفاق الوطني، حافظت الحرب الأوكرانية على التناقض ذاته. ففي مقابل المتطوعين لدعم القوات الروسية، تتوارد تقارير من إدلب شمال سوريا عن جهود لتجنيد متطوعين يقاتلون الروس في أوكرانيا (نريد أن نعرف موقف الإعلام الغربي منهم إذا ما تأكدت التقارير). يحتاج الأمر إلى مباركة تركيا التي تتحكم في المعابر وحركة البشر من وإلى شمال سوريا، ليجد سوريون أنفسهم يقاتلون سوريين تحت سماء أوكرانيا.
مشاركة الأجانب في الصراعات المسلحة قصة قديمة تطرح معضلات إنسانية وقانونية وسياسية تبدأ من حقوقهم إذا ما قُتلوا أو أُسروا، وتنتهي عند معاملة حكوماتهم لهم إذا ما نجوا وأرادوا العودة. روسيا، صاحبة الباع الطويل في استعمال المرتزقة، حذَّرت بسرعة من أنها ستعتبر الأجانب المقاتلين في أوكرانيا خارجين عن القانون، ما يعني أنها منحت نفسها حق تصفيتهم. ربما لأنها تعرف من تجربتها في أكثر من مكان مع “فاغنر” وغيرها، أن ذلك هو المصير الذين يستحقون.
حال الأجانب الذين يشاركون في الصراعات بتشجيع من حكومات غربية قوية، أسهل ومصيرهم أوضح. في الحالة الأوكرانية أغلبهم غربيون تطوَّعوا بعلم حكوماتهم وحتى بتشجيع وتمويل منها، والدعاية الإعلامية تصوِّرهم أبطالا وأصحاب مبادئ.
لكن الأمر يختلف عندما يتعلق بمن يلتحقون بمناطق الصراع منفردين أو عبر منظمات منبوذة كما هو حال “الجهاديين” في أفغانستان والشيشان والصومال والعراق. كثير من هؤلاء، كما أثبتت العقود الأربعة الماضية، قادمون من بلدان عربية وإسلامية تعاني من التخلف والحروب، تنبذهم حكوماتهم وتفعل كل شيء لمنع عودتهم إليها.
الصورة الأشمل والأخطر أن الدول تتجه إلى خصخصة الحروب. إلى سنوات قليلة مضت كان موضوع المقاتلين الأجانب “تابو” تُفضّل الحكومات إخفاءه. كان يُسوَّق عبر شركات أمنية غربية مثل “بلاك ووتر”، ولم تكن الحكومات تتأخر في إعلان براءتها من الأمر عند وقوع تجاوزات، كما حدث في العراق. لكن تزايد الصراعات المسلحة وتنوعها رفع الحرج وأوجد سوقا عالمية توفر المرتزقة حسب الطلب.
في الماضي كانت الحروب تقليدية تقوم لأسباب “وجيهة” (رغم ألًّا حرب مُبرَّرة).. حدود، خيرات طبيعية، إلخ. اليوم تُفتعل الصراعات افتعالا من أطراف همُّها جني المكاسب من الجثث والدماء المسفوكة.
من المؤسف اليوم أن دولا وحكومات، تبدو في المظهر قوية وديمقراطية، تلجأ في إدارة صراعاتها إلى سوق المرتزقة وتضع نفسها في خدمة شركات التصنيع الحربي ولوبيات الحروب والمؤسسات الأمنية الخاصة. الخطر أنه كلما تكرَّس هذا الواقع أكثر قطع العالم خطوة إضافية في مسار الانتقال من خصخصة الحروب إلى خصخصة الدول.
توفيق رباحي القدس
تعليقات الزوار
لا تعليقات