تتكثف من جديد حلقات التجاذب الإقليمي حول مذكرة التفاهم البحرية الموقعة بين ليبيا وتركيا عام 2019، مع دخول القاهرة بصورة أكثر وضوحًا على خط الملف، وارتفاع نبرة ردّ الحكومة المكلفة من مجلس النواب على الضغوط اليونانية. وتأتي المعطيات الجديدة المتمثلة في لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وقائد قوات «القيادة العامة» خليفة حفتر في القاهرة، بالتوازي مع بيان شديد اللهجة أصدره رئيس حكومة بنغازي أسامة حماد، لتضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى مشهد سبق وأن تناولته تقارير الأيام الماضية حول زيارة عقيلة صالح إلى أثينا، وتصريحات المسؤولين اليونانيين الرافضة للمذكرة البحرية، وكذلك الخلافات داخل مجلس النواب حول طريقة التعاطي مع هذه الضغوط.
حسب صحيفة «غريك سيتي تايمز» اليونانية، فإن اللقاء الذي جرى الإثنين في القاهرة بين السيسي وحفتر لم يكن مجرد اجتماع بروتوكولي، بل لقاء بملفات ثقيلة في مقدمتها ترسيم الحدود البحرية بين مصر وليبيا. حضور نائب قائد قوات «القيادة العامة» الفريق صدام حفتر، إلى جانب رئيس المخابرات المصرية حسن رشاد، أعطى الاجتماع بُعدًا سياسيًا وأمنيًا واضحًا، واعتبرته الجريدة إشارة إلى استمرار الدعم المصري لمسار توحيد السلطة في ليبيا عبر الانتخابات، وفي الوقت نفسه محاولة لصياغة مقاربة مشتركة لملف شرق المتوسط وترتيباته البحرية.
في هذا السياق، برز ملف ترسيم الحدود البحرية كأحد المحاور الرئيسية في اللقاء، حيث تقول الصحيفة اليونانية إن الطرفين اتفقا على التعاون في هذا الملف بما «يتفق مع القانون الدولي ويخدم المصالح المشتركة دون الإضرار بالدول الثالثة». غير أن القراءة اليونانية ترى أن أي تفاهم مصري – ليبي محتمل ستكون له انعكاسات مباشرة على مذكرة التفاهم التركية – الليبية، التي تعتبرها أثينا غير قانونية وتمس بمناطق تطالب بها في البحر المتوسط. وتشير الصحيفة إلى أن حفتر، بوصفه اللاعب المسيطر عسكريًا على أجزاء واسعة من الشرق الليبي، يمكن أن يؤثر بشكل حاسم في رسم الحدود البحرية التي تتداخل مع مناطق مشمولة بالمذكرة التركية – الليبية.
وتضيف «غريك سيتي تايمز» أن اليونان «تراقب عن كثب» ما إذا كانت هذه النقاشات ستؤدي إلى تثبيت الخريطة التي أعلنتها القاهرة عام 2020 لمناطقها الاقتصادية الخالصة متجاهلة مذكرة التفاهم الليبية – التركية، أم أنها ستفتح الباب أمام محادثات ثلاثية محتملة تضم مصر وليبيا واليونان لتحديد «نقطة ثالثة مشتركة» للفصل بين مناطق النفوذ البحري. وفي هذا الإطار، جاءت تصريحات الناطقة باسم الخارجية اليونانية لينا زوشيو لتؤكد أن أثينا مستعدة للتفاوض على ترسيم المناطق الاقتصادية أو اللجوء إلى التحكيم أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، واصفة موقف مصر وليبيا بأنه «متوقع».
هذا الحراك لم يبدأ من القاهرة، بل هو حلقة جديدة في سلسلة تحركات يونانية مكثفة تجاه بنغازي. ففي الأيام الماضية استقبل وزير الخارجية اليوناني جورج جيرابتريتيس رئيس مجلس النواب عقيلة صالح في أثينا، حيث جرى التركيز على الدعوة إلى عدم المصادقة على مذكرة التفاهم البحرية مع أنقرة. كما سبقت ذلك تصريحات لرئيس البرلمان اليوناني نيكيتاس كاكلامانيس دعا فيها صراحة إلى عدم التصديق على المذكرة ثم العمل على إلغائها نهائيًا، معتبرًا أن ذلك «في مصلحة ليبيا أولًا ثم اليونان»، وهي التصريحات التي انعكست سريعًا في الداخل الليبي على شكل جدل حاد، ظهر في بيان النائب الثاني مصباح دومة وما تلاه من رفض من قبل نواب رافقوا عقيلة إلى اليونان، مؤكدين في تصريحات سابقة أن ليبيا «دولة ذات سيادة» ولا تقبل الإملاءات الخارجية.
في مواجهة هذه الضغوط، جاء بيان رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب أسامة حماد ليشكل أقوى رد سياسي من معسكر بنغازي على الموقف اليوناني. حماد استنكر ما وصفه بمحاولات ممثلي السلطة في اليونان توجيه “إملاءات” للسلطة التشريعية الليبية، واعتبر أن هذا السلوك يمثل تدخلًا صارخًا في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة كاملة، بل ذهب أبعد من ذلك حين ربط الضغوط اليونانية بما وصفه بكون القرار اليوناني «مرتهنًا» لإرادة الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية.
وأكد حماد في بيانه أن ليبيا دولة ذات سيادة راسخة لا تقبل المساس بحقوقها البحرية ولا التشكيك في اتفاقياتها الثنائية “المشروعة”، معلنًا تمسك حكومته بحق ليبيا في منطقتها الاقتصادية الخالصة شرق المتوسط وفقًا للمواثيق الدولية. وشدد على أن حكومته لن تعترف بأي اتفاقات أو مفاوضات ثنائية أو إقليمية يمكن أن تبرمها السلطات اليونانية إذا كان من شأنها المساس بالمصالح والحقوق الليبية الثابتة، معتبرًا أن الخطاب السياسي الصادر من أثينا لا يخدم الاستقرار الإقليمي وحسن الجوار، بل يعكس توترًا سياسيًا داخليًا تحاول اليونان تصديره إلى الخارج عبر التصعيد الكلامي. وفي خطوة تعيد توجيه النقاش إلى المسار القانوني بدل السياسي، دعا حماد الجانب اليوناني إلى الجلوس مع «لجنة ترسيم الحدود البحرية» الليبية المختصة للمطالبة بما تعتبره حقوقًا، إن وُجدت، وفق قواعد القانون الدولي، بدلًا من الاكتفاء بما سماه «الخطاب الموجه للاستهلاك الداخلي». هذه الدعوة تتقاطع مع ما سبق أن أعلنه حماد نفسه من تشكيل لجنة فنية لمراجعة ترسيم الحدود البحرية في المتوسط، في محاولة لصياغة موقف ليبي تقني يمكن أن يُستخدم في أي مفاوضات لاحقة سواء مع اليونان أو مع دول أخرى معنية بملف شرق المتوسط.
عند جمع هذه التطورات مع تقارير الأيام الماضية، يتضح أن المشهد تجاوز مجرد خلاف قانوني حول مذكرة التفاهم الليبية – التركية، ليصبح ساحة لتقاطعات أوسع: اليونان تحاول تقليص مساحة الاتفاق الليبي – التركي والبحث عن شركاء إقليميين في القاهرة وبنغازي، مصر تسعى لتثبيت موقعها كلاعب أساسي في ترتيب خرائط الطاقة والممرات البحرية؛ والسلطات الليبية المنقسمة تحاول استثمار هذا الاهتمام الدولي لتعزيز شرعيتها الداخلية وموقعها التفاوضي، وسط توازنات حساسة بين أنقرة وأثينا والقاهرة.
في ضوء ذلك، يبدو أن لقاء السيسي – حفتر والتصعيد اللفظي في بيان حماد ليسا حدثين معزولين، بل محطة جديدة في مسار مفتوح من التجاذب البحري والدبلوماسي، قد يقود إما إلى تسويات تفاوضية عبر لجان فنية وتحكيم دولي، أو إلى مزيد من الاستقطاب في شرق المتوسط، حيث تتحرك خطوط الترسيم البحري بالتوازي مع خطوط التحالفات السياسية والعسكرية في ليبيا والمنطقة.
لقاء السيسي – حفتر وتصعيد حماد يوسّعان دائرة التجاذب حول مذكرة التفاهم البحرية الليبية – التركية

تعليقات الزوار
لا تعليقات