من جديد يعود ملف العلاقات الليبية – اليونانية إلى واجهة الجدل السياسي، بعد موجة تصريحات متبادلة حملت هذا الأسبوع مؤشرات توتر متزايدة، ليس فقط بين طرابلس وأثينا، بل داخل المؤسسة التشريعية الليبية نفسها. فقد اتخد النائبان سعيد امغيب والمنتصر الحاسي موقفًا شديد اللهجة ضد ما ورد في بيان النائب الثاني لرئيس مجلس النواب، مصباح دومة، معتبرين أن ما طرحه بشأن زيارة عقيلة صالح إلى اليونان «محض ادعاء ولا يمت للحقيقة بصلة»، ومؤكدين أن بيان دومة تضمّن اتهامات ضمنية غير مبررة بحق رئيس البرلمان والوفد المرافق له. ويأتي هذا السجال في ظل زيارة رسمية غير مسبوقة لرئيس مجلس النواب إلى أثينا، طغى عليها النقاش حول مذكرة التفاهم البحرية الموقعة مع تركيا عام 2019، والتي تطالب اليونان بإلغائها، في حين يؤكد الجانب الليبي أنها اتفاقية سيادية لا يمكن لأي دولة التدخل فيها.
وأكد النائبان أن عقيلة صالح حرص خلال لقائه المسؤولين اليونانيين على التأكيد الصريح بأن ليبيا دولة ذات سيادة كاملة، وأن أي محاولة لفرض إملاءات خارجية على المؤسسات الوطنية أمر مرفوض تمامًا، مشددين على أن الوفد الليبي نقل للجانب اليوناني الموقف الواضح بأن القرارات السيادية لا تخضع لضغط أو توجيه من أي طرف. كما عبّر امغيب والحاسي عن رفضهما القاطع للزج باسميهما في أي سياق سياسي غير حقيقي، داعيين إلى تحري الدقة وتجنب التصريحات التي تُلقي بظلال سلبية على عمل البرلمان.
وكان مصباح دومة قد أصدر بيانًا مطولًا في وقت سابق، استنكر فيه تصريحات صدرت عن مسؤولين يونانيين، من بينهم رئيس البرلمان اليوناني نيكيتاس كاكلامانيس، الذي دعا خلال لقائه عقيلة صالح في أثينا إلى عدم التصديق على مذكرة التفاهم البحرية الموقعة بين ليبيا وتركيا، وصولًا إلى المطالبة بإلغائها نهائيًا في ما وصفه بأنه «لمصلحة ليبيا أولًا ثم اليونان». وقد اعتبر دومة هذه التصريحات تدخلًا مباشرًا في الشأن الليبي، وتماديًا في محاولة التأثير على القرارات السيادية للدولة الليبية. وأكد النائب الثاني أن الاتفاقيات التي تعقدها الدولة تخضع للقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية، ولا يحق لأي دولة أن تملي على ليبيا موقفًا محددًا، سواء كان ذلك بشأن التصديق على الاتفاق أو التخلي عنه.
وفي هذا الإطار، أوضح دومة أن ليبيا تحترم مبادئ حسن الجوار والعلاقات الثنائية القائمة على الاحترام المتبادل، لكنها ترفض تمامًا أي تصريحات تتجاوز حدود اللياقة الدبلوماسية أو تلمّح إلى إمكانية التأثير على خيارات ليبيا الداخلية. كما شدد على أن أي خلاف حول ترسيم الحدود البحرية يجب أن يُعالج عبر الأطر القانونية الدولية المعترف بها، وليس من خلال التصريحات الإعلامية أو محاولات الضغط السياسي. وختم بيانه بالدعوة إلى ضرورة التزام الجانب اليوناني بضبط النفس، واحترام سيادة ليبيا، والكف عن محاولات التدخل في شؤونها الداخلية، مؤكداً أن القرار الليبي يصدر عن مؤسساته الشرعية التي تمثل الشعب ولا يحتاج إلى توجيهات من عواصم أخرى.
وتأتي هذه التصريحات المتبادلة في سياق نقاش مستمر منذ أشهر حول مستقبل مذكرة التفاهم البحرية الموقعة بين حكومة الوفاق السابقة وأنقرة عام 2019، والتي أرست إطارًا لترسيم مناطق النفوذ البحري بين البلدين. وكانت التقارير التي نشرناها في الأيام الماضية قد أوضحت أن اليونان تعتبر المذكرة «باطلة» لأنها – وفق رواية مسؤوليها – تتداخل مع جزرها وتتعارض مع قانون البحار، في حين تصرّ أطراف داخل ليبيا على أن الاتفاقية تمثل أداة سيادية لحماية مصالح البلاد في البحر المتوسط، ضمن سياق تحالفات متشابكة وتنافس إقليمي حاد. كما أشارت تقارير سابقة إلى أن أثينا تعمل في الأشهر الأخيرة على تكثيف ضغوطها الدبلوماسية لإقناع مجلس النواب الليبي بإسقاط المذكرة، في وقت تواجه فيه ليبيا انقسامًا سياسيًا لم يسمح حتى الآن بإقرار إطار موحد للسياسة الخارجية.
وخلال زيارة عقيلة صالح الأخيرة لأثينا، أعاد وزير الخارجية اليوناني جورج جيرابتريتيس التأكيد على موقف بلاده الرافض للمذكرة البحرية، معتبرًا أنها «تنتهك المناطق الاقتصادية للجزر اليونانية وتخالف القانون الدولي». وقد نقلت صحيفة «كاثمريني» عن مصادر دبلوماسية أن الوزير شدد على ضرورة أن تعيد ليبيا النظر في الاتفاق، وأن تتخذ خطوات تمهد لإلغائه في مرحلة لاحقة. غير أن صالح، وفق ما نقلته مصادر برلمانية ليبية، أكد للجانب اليوناني أن أي اتفاقيات وقّعت أو ستوقّع مستقبلاً هي شأن ليبي داخلي يُبتّ فيه وفقًا للمصلحة الوطنية، وأن مجلس النواب يتحرك وفق صلاحياته الدستورية، وليس تحت تأثير أي ضغوط.
وتطرح هذه التطورات أسئلة متجددة حول حجم التأثير الخارجي في رسم ملامح المشهد السياسي الليبي، خاصة في ظل غياب حكومة موحدة قادرة على إدارة العلاقات الدولية برؤية متناسقة. ومع أن اليونان تعتبر نفسها طرفًا معنيًا مباشرة بالخلاف البحري نتيجة التوسع التركي في شرق المتوسط، إلا أن ردود الفعل الليبية خلال الأسبوع الأخير تعكس حساسية متزايدة تجاه أي تصريحات يُنظر إليها كمسّ بالسيادة الوطنية. وقد بدا هذا الأمر واضحًا في مواقف النواب الذين اعتبروا أن مطلب أثينا بعدم التصديق على المذكرة، ثم إلغائها، يخالف قواعد التعامل بين الدول ذات السيادة.
وتبدو الصورة الحالية امتدادًا للخلفيات التي تناولناها في تقارير سابقة، والتي سلطت الضوء على تصاعد التوترات الإقليمية حول شرق المتوسط، وعلى الانقسام الداخلي الليبي الذي يجعل من كل خطوة دبلوماسية مادة للسجال المحلي. ففي الوقت الذي تحرص فيه بعض الأطراف الليبية على إبقاء الانفتاح على اليونان قائمًا، تتمسك أطراف أخرى بضرورة الحفاظ على الاتفاقيات التي ترى أنها تخدم مصالح ليبيا الاقتصادية والاستراتيجية، خاصة في ظل صراع معقد على موارد الطاقة البحرية.
ومع أن الخلافات داخل مجلس النواب ليست جديدة، إلا أن حدتها في هذا الملف تكشف عمق الانقسام حول كيفية إدارة العلاقات مع الأطراف الإقليمية، وحول مدى الموازنة بين الاعتبارات القانونية والدبلوماسية من جهة، والضغوط السياسية والاستراتيجية من جهة أخرى. كما تعكس تلك الخلافات حجم التحدي الذي يواجه مؤسسات الدولة في محاولة بناء موقف خارجي موحد في ظل الانقسام القائم.
في المحصلة، يظهر أن زيارة عقيلة صالح إلى اليونان لم تسهم في تهدئة الملف البحري بقدر ما فتحت بابًا لسجال داخلي إضافي، بينما تستمر أثينا في السعي إلى تعديل الموقف الليبي من مذكرة التفاهم البحرية، دون أن تجد استجابة واضحة حتى الآن. وبينما تبقى الملفات السيادية حاضرة بقوة في النقاش الداخلي، تبدو ليبيا مطالبة أكثر من أي وقت مضى برسم سياسة خارجية موحدة تحمي مصالحها وتجنّبها الاستقطاب الإقليمي المتنامي.
تصاعد الخلافات بين النواب الليبيين بعد زيارة عقيلة لليونان

تعليقات الزوار
لا تعليقات