أخبار عاجلة

للعيش في الجزائر العاصمة يجب عليك امتلاك حذاء جلدي متين

تخبرني صديقة أن العيش في الجزائر العاصمة يقتضي شرطاً لا مناص منه: امتلاك حذاء. نعم لا بد من حذاء جلدي، متين ومريح. لأنها مدينة تلزم المقيم فيها قطع كيلومترات، على قدميه، كل يوم. ويعلق صديق آخر أنها مدينة معادية للسمنة. لأن المقيم فيها كذلك لا يعرف الخمول، بل سوف يضطر إلى المشي وإلى حرق الدهون. سوف يضطر إلى ممارسة الحد الأدنى من الرياضة، لأنها مدينة تشبه سلالم، طرقاتها في صعود ونزول. وعلى الرغم مما توافر عليه عاصمة البلاد من بنية في النقل، وحيازتها شبكة حافلات وسيارات ومترو أنفاق، فذلك لا يكفي من أجل حياة هانئة، ولا بد لأناسها من المشي وقطع ساعات على الأقدام كل يوم. وقد يكون من المفيد أن ندرج رياضة المشي في هوية المقيمين في هذه العاصمة، لأنها نشاط شبه رسمي، ويضطر إليه كل واحد يصل إليها أو يقيم فيها. مع ذلك فإن المشي في هذه المدينة، لاسيما في هذه الأيام، حيث حل الصيف قبل الأوان، ليس مهمة سهلة، بل تقتضي مشقة، لأن هناك إشغالا لطرق وأرصفة، مما يضطر الإنسان إلى تغيير مساراته، أو الالتواء في سيره، قبل بلوغ مقصده.
كما إن قيادة مركبة ليس أمرا هينا كذلك بحكم ندرة مواقف السيارات.
في الجزائر العاصمة فكرنا في كل شيء، لكننا لم نفكر في راحة من يسير على قدميه، لأن قضاء مشاغل فيها يترتب عليه السير، والسير كذلك مشقة لاسيما مع الحر، ولاسيما لأشخاص بلغوا أواسط العمر، أو بلغوا من الكبر عتيا. والحل الآخر المتعلق بركوب حافلة ليس خيارا مباحا في كل الأحوال، نظرا إلى الزحمة التي تشهدها الطرقات. وإذا أراد شخص أن ينأى بنفسه فلا مقصد له يريحه من ضوضاء المركبات وأشغال الأرصفة والطرقات، سوى أن يرتقي إلى ربوة على رأس المدينة، إلى المكان الذي تنتصب فيه كاتدرائية السيدة الافريقية. هذه الكاتدرائية التي شيدت في القرن التاسع عشر، وترتفع بأكثر من مئة متر على سطح البحر، تحتاج كذلك إلى قدمين من أجل الوصول إليها، من أجل تفادي زحمة الراكبين في الحافلات. وعندما نصل إليها سوف نقابل البحر والسماء، ونشعر بقرب من الله.

في ساحة الكاتدرائية سنصادف كذلك عائلات وأطفالا ملّوا من ضوضاء الحياة في الأسفل، فارتقوا إليها بحثا عن خلوة وعن أمن من نرفزة العابرين أو السائقين. في ساحة الكاتدرائية بوسع الإنسان أن يطل على الجزائر العاصمة، من غير أن يشعر بضغط الوقت، وقد ينسى الأشغال التي عليه تحملها، ويتعانق مع سكون المكان، ويشعر بأن الحياة قد عادت إلى عاصمة البلاد. في ساحة الكاتدرائية، يمكن أن نطل على عاصمة البلاد في سكونها، في صمتها، في انسحابها من فوضى العالم، ويمكن من ذلك المكان أن ننظر إلى الجزائر العاصمة، كأنها لوحة من أعمال باية محيي الدين، بألوانها وكأنها بنيت كي نتأملها، لا أن نتزاحم فيها، فكلما ابتعدنا من مركز المدينة واتجهنا إلى الأعلى خف الضجيج. تصير هذه المدينة من علٍ مثل رجل يستلقي في قيلولة، غير مبال بما يجري حوله، تصير مدينة غير مكترثة سوى بنفسها، ولا يهمها ما يُحكى عنها أو ما يُقال في الأخبار عن تزايد السكان فيها. لأن النظر إليها من علٍ يتيح صورة من الطبيعة، من تعانق بحر وسماء، ولا نرى بينهما ما يخدش النظر، لن نرى زحمة في سوق ولا في طريق، وكأن الذي شيد الكاتدرائية، لم يرد منها مكانا للعبادة فحسب، بل أراد من موقعها فرصة في إعادة اكتشاف عاصمة البلاد. وعندما نسير في الأسفل، بين الطرقات والأرصفة، فسوف نرصد البحر، ولكن على مضض، لن يتاح للمارة أن يتأملوا زرقته في هدوء، ولكن عند الارتقاء إلى الأعلى، إلى كاتدرائية السيدة الافريقية، يصير للبحر لون آخر، يزداد زرقة، ويزداد اللسان ذكرا لاسم الله. فتلك الكاتدرائية لا تفرق بين مسلم ومسيحي، بل إنها تستضيف في ساحتها من له دين ومن ليس له دين.

لا يصل إليها ضجيج، ونظن أن العاصمة محظوظة بمكان يحفظ لها خلوة، ويتيح لمن يرتقي إليها أن يسترد أنفاسه، وأن يتأمل المدينة في أحلى صورها.
أما إذا نزلنا إلى الأسفل، وأردنا مكانا يعصمنا من المشي ساعات، كما يعصمنا من نرفزة مارة وقلق سائقي المركبات، فليس هناك أفضل من شاطئ كتاني، جوار حي باب الوادي العتيق، في هذا الشاطئ سوف نصادف عائلات وأطفالا يتجولون في المكان، في ميادين مخصصة للعب، أو في مقاه مجاورة لها، وعلى طرف يحاذيها، سوف نصادف فئة من ساكني الجزائر العاصمة، وهي الفئة الأكثر اعتدادا بصمتها وبرغبتها في عيش أقل ضجيجا، نقصد منها فئة الصيادين. فكل يوم يلتئم الصيادون على شاطئ كتاني، يقذفون صناراتهم في الماء، في انتظار أن تقع أسماك في الطعم، وهذا الانتظار من شأنه أن يدوم ساعات من غير ملل. لأن الصيادين يقضون وقتهم في أحاديث لا تشبه أحاديث الناس الآخرين. لا يخوضون في شؤون السياسة، التي تثير زوبعة في الرأس، ولا تهمهم نتائج مباريات الكرة، التي تثير خلافات بين الناس، فهؤلاء الصيادون مشغولون بالوقت، وبقوت الأسماك من أجل اصطيادها، لا يهمهم من ابتاع سيارة أو باع بيتا، بل يملؤون أحاديثهم في تعداد أنواع الأسماك التي تسكن الماء، وفي التباهي بعدد الأسماك التي اصطادوها، والتي تنتهي في مقلاة، لأنهم يصطادون من أجل تسلية، لا من أجل بيع وشراء، يصطادون من أجل أن يتاح لهم سبب في الالتقاء وفي الحديث عن الجزائر العاصمة في زمنها الأجمل، بشكل يخفف من وطأة الحياة فيها في الزمن الحالي.
وفي هذا الزمن الحالي، من أجل الهروب من الوجه المتوحش من عاصمة البلاد، لا بد من مكانين آمنين، سواء بالارتقاء إلى الأعلى، والاسترخاء في ساحة الكاتدرائية، ثم النظر إلى الحياة من علٍ، أو بالنزول إلى شاطئ، حيث يصطف صيادون، وإلى جانبهم عشاق يتبادلون الكلام في همسٍ وينظرون إلى البحر حالمين بحياة أليفة صوب الشمال وخلف الأمواج.

سعيد خطيبي

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات