ما زال القانون الجديد المتعلق بالشيكات في تونس يثير الكثير من الجدل بعد أن برزت صعوبات عديدة على مستوى تطبيقه، وبعد عجز الكثير من المواطنين عن إيجاد البديل في تعاملاتهم المالية والتجارية. فقد اعتاد التونسيون خلال العقود الماضية على التعامل بالشيك كوسيلة ضمان عند غياب السيولة المالية المطلوبة في المعاملات التجارية ووجدوا أنفسهم اليوم في عدد هام من المعاملات مضطرون للتعامل بأوراق مالية أخرى لا يرى فيها الكثير من المتعاملين وسيلة ضمان كافية.
وللإشارة فإن تونس أصدرت خلال الصائفة الماضية القانون عدد 41 لسنة 2024 المؤرخ في 2 آب/أغسطس 2024 المتعلق بتنقيح بعض أحكام المدونة التجارية واتمامها. وتضمن هذا القانون التشريعات الجديدة المتعلقة بالشيك والتي دخلت حيز التنفيذ ابتداء من يوم 2 شباط/فبراير 2025 وتضمن أحكاما جديدة كان هدفها الأساسي إفراغ السجون التونسية المليئة بمن يقضون أحكاما بالسجن بسبب جريمة إصدار شيك من دون رصيد.
وحسب المشرّع التونسي فإنّ الهدف من هذا القانون هو تعزيز سلامة ومصداقية المبادلات باعتماد الشيك، وتحسين المُمارسات البنكية وتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. كما أن من بين أهدافه، تسوية وضعيّة التونسيين المحكوم عليهم بالسجن بسبب جريمة إصدار شيك من دون رصيد أو الجارية في حقهم تتبعات عدلية بسبب هذه الجريمة التي تسببت في تدمير حياة الكثيرين.
وبموجب هذا القانون فإن على كل بنك أن يفتح حسابا يجري العمل به بالشيك لكل من يطلب منه ذلك شريطة أن يسترشد هذا البنك على وضع صاحب الحساب لدى البنك المركزي التونسي. كما يجب على البنك أن يتخذ التدابير اللازمة لتجنب صدور شيكات من دون رصيد من خلال تحديد قيمة السقف العام لكل دفتر شيكات بأن لا يتجاوز مبلغ 30 ألف دينار لكل شيك أي ما يقارب 10 آلاف دولار أمريكي.
كما فرض القانون على البنك أن يحدد لكل دفتر شيكات مدة صلاحية لا تقل عن ستة أشهر، ويُضمن وجوبا تاريخ انقضاء مدة الصلاحية بأسفل كل ورقة من أوراقه. وتنتهي صلاحية هذا الشيك بنهاية هذا الأجل خلافا لما كان عليه الحال في السابق حيث يبقى الأجل مفتوحا ويتم إيداع الشيك بعد فترة من إصداره ويكون صاحب الحساب قد نفد رصيده المالي ما يتسبب له في عقوبة سجنية.
كما نص القانون الجديد على أن ورقة الشيك يجب أن تتضمن وجوبا معلومات التحقق الإلكتروني ورمز الاستجابة السريعة الخاص بها وعناصر الأمان الضرورية للحفاظ على السر البنكي وتأمين المعاملة الإلكترونية، وفقا لما جاء في نص القانون. وبالتالي يصبح لزاما على البنك المركزي التونسي أن ينجز منصة رقمية موحدة خاصة بالمعاملات بالشيك يمكن الولوج إليها إلكترونيا من قبل كل من يرغب في التثبت من وجود الرصيد عند إصدار الشيك من عدمه.
وفرض القانون أيضا على جميع البنوك التونسية أن تنخرط في المنصة الرقمية عبر آلية الترابط البيني، وبالتالي يكون كل بنك مجبرا على ضمان تكامل أنظمته المعلوماتية مع هذه المنصة ومع آلية الترابط البيني المعتمدة، ومجبرا على توفير خدمات إلكترونية مجانية بواسطة المنصّة الرقمية. وتُمكن هذه الخدمات صاحب الحساب البنكي من النفاذ الميسر إلى المعلومات المتعلقة بحساباته المالية، وتمكن المستفيد من الشيك من التثبت الفوري من وجود رصيد كاف له أو من وجود اعتراض على خلاص الشيك بسبب السرقة أو الضياع أو بسبب وجود حجر على ساحبه أو وجود قفل للحساب المسحوب عليه الشيك.
ولعل أهم ما جاء به القانون الجديد هو إلغاء جريمة إصدار شيك من دون رصيد إذا كان مبلغ الشيك يساوي أو يقل عن 5 آلاف دينار، وبالتالي فإن التتبعات لا يمكن القيام بها إلا إذا كان المبلغ المنصوص عليه بالشيك أرفع من 5 آلاف دينار. ولا تتم التتبعات العدلية إلاّ ببادرة من المستفيد من الشيك وليس بطريقة آلية كما كان عليه الحال سابقا حيث يعلم البنك النيابة العمومية بحصول الجريمة فتبادر إلى تتبع مصدر الشيك بدون رصيد.
حالة من عدم الثقة
يرى البعض أن القانون عدد 41 لسنة 2024 المؤرخ في 2 آب/أغسطس 2024 المتعلق بتنقيح بعض أحكام المجلّة التجارية وإتمامها خلق حالة من عدم الثقة في هذه الورقة المالية بعد إلغاء العقوبة السجنية عند إصدار شيك بدون رصيد قيمته أقل من 5 آلاف دينار. فالتجار الذين كانوا يبيعون بضاعتهم بالتقسيط مقابل شيكات يسدد قيمتها الزبون شهريا، أصبحوا يخشون التسليم في بضاعتهم مقابل شيكات لا تؤدي بصاحبها إلى السجن في حال لم يقم بسداد ما عليه من دين.
لقد كان المواطن من أبناء الطبقة الوسطى يشتري في العادة أثاث بيته أو سيارته أو يقوم بتسديد دراسة أبنائه أو مصاريف علاجه في المصحات الخاصة أو غيرها بالتقسيط شهريا، مقابل منحه لتاجر الأثاث أو لصاحب المدرسة أو المصحة الخاصة شيكات يسترد كل شهر أحدها بعد تسديد قيمتها، لكنه اليوم، وبعد دخول القانون المشار إليه حيز التنفيذ، أصبح غير قادر على تصريف شؤونه والتمتع بالخدمات المشار إليها. فهذه الشريحة وهي غالبية الشعب، لا تمتلك السيولة المالية الكافية لتسديد هذه الحاجيات، وتاجر الأثاث أو صاحب المصحة أو مالك المدرسة الخاصة وغيرهم لن يمنحوه متطلباته الحياتية بما أن الشيك لم يعد أداة ضغط تضمن السداد وذلك بعد رفع العقوبة السجنية عنه وإلغاء جريمة إصدار شيك بدون رصيد بالنسبة للشيكات التي تقل قيمتها عن 5 آلاف دينار.
جوانب إيجابية
يرى أستاذ القانون المحامي صبري الثابتي في حديثه لـ«القدس العربي» أن القانون الجديد تضمن عديد الجوانب الإيجابية من بينها أنه ساهم في الإفراج عن الكثير من المساجين المدانين في جريمة إصدار شيك بدون رصيد وخفض في المستقبل من أعداد الذين سيودعون بالسجون. فالعقوبة السجنية، حسب الثابتي، أصبحت تطال فقط من يصدر شيكا تفوق قيمته 5 آلاف دينار ويقوم المستفيدون من الشيكات بإثارة التتبع في حقهم لدى النيابة العمومية التي لم يعد بإمكانها التحرك تلقائيا كما كان عليه الحال في السابق.
ويضيف: «أن القانون الجديد للشيكات أعاد الاعتبار للشيك كوسيلة دفع فوري، وليس لضمان الدفع المؤجل مثلما كان عليه الحال في السابق، كما أنه عزز الثقة في التعاملات المالية بين التونسيين بوجه عام. كما أنه طور الخدمات البنكية من ناحية الرقمنة واعتماد التقنيات الحديثة وساهم في ترسيخ الشفافية المطلوبة في المعاملات المالية التي يبدو الاقتصاد التونسي بحاجة إليها.
وللإشارة فإن هناك أوراقا مالية أخرى صالحة للدفع المؤجل بالإمكان اعتمادها على غرار الكمبيالة التي يجب أن يثق فيها التجار والمتعاملون معهم باعتبارها الأصل قبل أن يحصل الانحراف ويتم الاعتماد على الشيك كورقة مالية للدفع المؤجل. فالكمبيالة وجدت بالأساس في المعاملات التجارية لتسهيل الحركة الاقتصادية في حال عدم توفر السيولة المالية الكافية للدفع وهو دورها ولا يجب أن تلعب أي ورقة مالية أخرى هذا الدور الذي وجدت من أجله».
ركود اقتصادي
بالمقابل يرى عماد بالرابح الباحث في الاقتصاد في حديثه لـ«القدس العربي» أن الشيك الذي تحول في العقود الأخيرة إلى وسيلة ضمان في المعاملات التجارية بالنسبة للبيع المؤجل هو حل لشرائح واسعة من التونسيين للانتفاع بعديد الخدمات رغم غياب السيولة وتدهور القدرة الشرائية. وسيؤدي عدم اعتماده، حسب الخبير الاقتصادي، إلى تراجع الاستهلاك الذي يعتبر ضروريا لتحريك عجلة الاقتصاد الراكد منذ سنوات بسبب الأزمات السياسية المتلاحقة في البلد وتوقف الإنتاج في قطاعات عديدة.
ويضيف قائلا: «لقد ساهم هذا القانون في إضعاف القدرة الشرائية للتونسيين وخصوصا المنتمين إلى الطبقة الوسطى الذين يراهن عليهم الاقتصاد والذين باتت أعدادهم في تراجع في السنوات الأخيرة. ولعل ما يزيد الطين بلة أن البنوك التونسية تخلت أو كادت تتخلى في السنوات الأخيرة عن منح القروض الاستهلاكية للمواطنين وجنحت إلى إقراض الدولة وهو ما سيزيد الاقتصاد التونسي برأيي المتواضع ركودا على ركوده».
تعليقات الزوار
لا تعليقات