أخبار عاجلة

الحقوقي المغربي محمد الغلوسي: القوى المستفيدة من الريع والفساد تقوّض انتظارات المغاربة في الانتقال إلى دولة القانون

يلاحظ الناشط الحقوقي المغربي محمد الغلوسي، رئيس «الجمعية المغربية لحماية المال العام»، أن الإصلاحات الحقيقية تواجه مقاومة شرسة من لدن القوى المستفيدة من الريع والفساد التي تناهض أي تحول ديمقراطي، مؤكدًا أن هذا التوجه بامتداداته الاجتماعية والمؤسساتية استطاع أن يقوّض انتظارات المغاربة في الانتقال إلى دولة الحق والقانون.
في هذا الحوار، يستحضر الغلوسي رحلته النضالية في مجال حقوق الإنسان ومكافحة الفساد، ليكشف لـ«القدس العربي» عن أبرز القضايا التي تعاملت معها جمعيته في هذا الصدد. كما يناقش المعوقات التي تواجه محاربة الفساد في المغرب، سواء من خلال ضعف الإرادة السياسية أو من خلال الممارسات التي تعيق فتح تحقيقات جدية في الملفات الشائكة. ويثير الناشط الحقوقي كذلك تساؤلات حول مدى فاعلية التشريعات المعمول بها في محاربة الفساد، مشيرًا إلى ضرورة تعزيز دور القضاء واستقلاليته من أجل تحقيق مكافحة فعالة لهذه الآفة. ورغم الصعوبات الموجودة، يعرب الغلوسي عن تفاؤله، مشددًا على أهمية تكاتف الجهود بين المجتمع المدني والدولة من أجل محاربة الفساد، معتبرًا أن مستقبل هذه المعركة يعتمد بشكل كبير على تفعيل الإصلاحات السياسية والمؤسساتية وتطبيق مبدأ «ربط المسؤولية بالمحاسبة».
وفي ما يلي نص الحوار:
○ كيف كانت بدايتكم في مجال العمل الحقوقي ومحاربة الفساد؟ وما الذي دفعكم إلى هذا التخصص رغم التحديات؟
• انشغالي النضالي والحقوقي بدأ منذ أن كنت تلميذا في الدراسة الثانوية، مرورا بالجامعة في القطاع الطلابي ضمن «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب»، وصولا إلى التحاقي بمهنة المحاماة كمحام. وبالتالي، فهذا المسار كله مسار نضال من أجل حقوق الإنسان ومن أجل الحريات والديمقراطية، لقد ناضلت في واجهات متعددة ذات طبيعة سياسية أو حقوقية أو اجتماعية. وبالتالي، فهذا التراكم النضالي والحقوقي اقتضى أن يتوج بنوع من التخصص في مجال مكافحة الفساد وتخليق الحياة العامة، لأنني، إلى جانب ثلة من المناضلين الديمقراطيين، مؤمنون بأن مكافحة الفساد لا تنفصل عن الديمقراطية. ومن ثم، فإن الإفلات من العقاب وربط المسؤولية بالمحاسبة لا ينفصل عن النضال من أجل بناء دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات، وأن النضال من أجل مكافحة الفساد لا يعني فقط الجمعية المغربية لحماية المال العام التي أتشرف برئاستها، وإنما يعني كل القوى الحية في المجتمع وكل الفاعلين وكل المؤسسات.
○ في هذا الإطار، كيف تقيمون واقع محاربة الفساد في المغرب اليوم؟ وهل ترون أن هناك إرادة سياسية حقيقية لمكافحة هذه الظاهرة؟
• محاربة الفساد ليست شعارا فقط، بل هي قضية مجتمع ودولة وقضية كل الفاعلين، وبالتالي فهي ليست قضية ترف فكري أو قضية وقت ضائع، بل هي قضية جوهرية ومركزية، لا تنحصر فقط ـ كما يحاول أن يوهمنا البعض ـ بأنها مسألة أشخاص أو جماعات محلية أو منتخبين أو نحو ذلك، والحال أن قضية الفساد قضية نسق وبنية ومصالح مركبة ومعقدة، يتداخل فيها البعد الاقتصادي بالاجتماعي بالسياسي بالثقافي. إنها ليست موجهة ضد شخص بعينه أو أشخاص محددين أو ضد جماعات ترابية، بل هي إشكالية ذات عمق سياسي، لأن الدول الديمقراطية حتى وإن كانت تشهد فسادا، لكن مساحات هذا الفساد تتراجع، بحكم أن الآليات القانونية والسياسية والمجتمعية تشتغل بشكل طبيعي وتلقائي. أما حين يتعلق الأمر بالبلدان التي لم تحقق بعد الديمقراطية، ويظل فيها حكم القانون ضعيفا، فإنها تعرف انتشارا واسعا للفساد، ويصبح أداة للحكم والتأثير، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب ولبلدان أخرى في شمال أفريقيا وفي الخليج وفي آسيا، بحيث أن بلدانا كثيرة ما زال فيها الفساد يشكل أداة للتدبير والحكم، فتصبح قضية محاربة الفساد معقدة ومحفوفة بالمخاطر، وتتطلب تضافر جهود الجميع من أجل التصدي لهذه الآفة الخطيرة التي تهدد مقومات الاستقرار والسلم الاجتماعي، وتساهم في نشر الشعور بالخوف وبعدم الأمان وعدم الاستقرار. كما أن للفساد أيضا علاقة بالجريمة المنظمة وبالإرهاب، فالبلدان التي ينتشر فيها الفساد تتشكل فيها الشبكات الإجرامية والعصابات المنظمة، مما يهدد مقومات الدولة والسلم الاجتماعي.
○ حسنًا، ما هي أبرز ملفات الفساد التي تعاملتم معها في إطار جمعيتكم؟ وكيف كانت استجابة الجهات المعنية لمطالبكم بفتح تحقيقات جادة؟
• نحن في «الجمعية المغربية لحماية المال العام» لا ندّعي أننا قادرون على محاربة الفساد لوحدنا، ولا ندعي البطولة في هذا الجانب، فكل من نقوم به هو مجهودات متواضعة تتضافر مع جهود فاعلين آخرين، بما في ذلك مؤسسات دستورية رسمية، وتتفاعل كل هذه الجهود من أجل مواجهة هذه الظاهرة. وحين نتقدم بشكايات لها علاقة بالفساد والمال العام فإننا لا نواجه عبرها أشخاصا، فليست لنا خصومة مع أشخاص بعينهم، كما يريد أن يروج البعض، بل لنا خصومة مع الفساد، ونريد أن نمارس دورنا كمجتمع مدني، انطلاقا من الصلاحيات المخولة من الدستور واتفاقيات الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، للترافع من أجل المساهمة الإيجابية في تخليق الحياة العامة.
ولذلك، فتقديمنا للشكايات بعيد عن أسلوب التشهير والابتزاز وعن كل أساليب الدعاية. بل إن تلك الشكايات هي فقط وسيلة من بين وسائل أخرى للمساهمة في مكافحة الفساد. وفي هذا الإطار، تقدمنا بشكايات متعددة في الموضوع، همت مؤسسات عمومية وجماعات ترابية وغيرها… وتبقى أهم الشكايات التي قدمناها تلك الموجهة ضد الاختلالات التي عرفها «البرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم»، والذي عرف تبديد ما يقارب 44 مليار درهم مغربي (ما يعادل 4.19 مليار دولار أمريكي). وللأسف الشديد، فإن هذه الشكاية التي تقدمنا بها تم تحريف الأبحاث والمتابعات القضائية ضد بعض المديرين الأكاديميين وبعض المديرين الإقليميين والموظفين (التابعيين لوزارة التعليم) وكذا ضد بعض المقاولين. إلا أنه للأسف الشديد، استثنت الأبحاث والمحاسبة المسؤولين الكبار في الوزارة الذين لهم القرار في هذا الجانب، إذ جرى استبعاد الوزير ودائرته الضيقة.
كما تقدمنا بشكاية تتعلق بملف المحروقات والبنزين الذي أحاله الوكيل العام في الرباط على الفرقة الجهوية للشرطة القضائية التي استدعتني كرئيس للجمعية. وللأسف، جرى حفظ هذه الشكاية في وقت وجيز، بدون الاستماع إلى باقي الأطراف، خاصة ممثلي الشركات المعنية، ودون الاستماع إلى بعض البرلمانيين، ودون الاطلاع على تقرير اللجنة الموضوعاتية التي شكلها البرلمان بهذا الخصوص. وتقدمنا أيضا بشكاية متعلقة بصفقات وزارة الصحة خلال فترة جائحة كورونا، لكن تم حفظها هي كذلك.
وهناك شكايات أخرى تتعلق بإصلاحات المجمع الرياضي محمد الخامس في الدار البيضاء، والتي كلفت 225 مليون درهم مغربي (21.43 مليون دولار أمريكي)، وما زالت الإصلاحات تتوالى في هذا المجمع. بالإضافة إلى شكايات همّت مؤسسات وقطاعات عمومية أخرى. ونحن نعتبر هذه الشكايات مجرد وسيلة من بين وسائل أخرى للترافع من أجل مكافحة الفساد، وهي أيضا وسيلة للتحسيس والتوعية بخطورة الفساد على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وعلى البرامج التنموية، ووسيلة لربط المسؤولية بالمحاسبة على أرض الواقع، ودفع كل الجهات المعنية، بما فيها السلطة القضائية، للقيام بأدوارها في هذا الجانب، من أجل تحقيق «الردع العام» و«الردع الخاص»، وتفعيل القوانين ذات الصلة.

ربط المسؤولية بالمحاسبة

○ تحدثتم عن مسألة حفظ الملفات التي تتقدمون بشكايات في شأنها وغلقها، فإلى ماذا يرجع هذا التوجه أو هذه الإرادة لطي ملفات الفساد، رغم ما تثيره من قضايا خطيرة متعلقة بالمال العام؟
• للأسف الشديد، ما زلنا نسجل في المغرب أن الأبحاث والمتابعات القضائية التي يتم تحريكها اليوم بخصوص قضايا الفساد تقتصر على المنتخبين وبعض الموظفين والمقاولين، ولم نصل بعد إلى تجسيد دولة الحق والقانون وربط المسؤولية بالمحاسبة، بحيث إن هناك وزراء وولاة وعمالا (محافظي الأقاليم) ومديري مؤسسات عمومية وقطاعات عمومية كبرى ما زالت بعيدة عن دائرة المحاسبة، وما زالت بعيدة حتى عن تقارير مؤسسات الحَوْكَمَة.
وما نتطلع إليه هو أن تصل دائرة المحاسبة والمتابعة إلى كل مدبري الشأن العام، سواء تعلق الأمر بالوزراء أو بالموظفين السامين أو بغيرهم من الأشخاص الذين يتولون قدرا من المسؤولية العمومية، خلافا للانتظارات التي حركها حراك «20 فبراير» ودستور 2011 والخطاب الملكي لـ9 آذار/مارس، لكن ـ للأسف ـ نظرا لقوة التوجه المستفيد من واقع الريع والفساد ولقوة القوى المحافظة التي ليست لها مصلحة في تعميق الإصلاحات المؤسساتية والدستورية والسياسية في المغرب، ونظرا لتراجع القوى الديمقراطية ولضعفها، فإن القوى المحافظة استغلت كل هذا المناخ والتفت على تلك الانتظارات وعلى كافة التطلعات، بما في ذلك المقتضيات الدستورية المتقدمة. وأذكر في هذا الإطار كيف تم الالتفاف على مقتضيات الفصل الـ 36 من الدستور الذي يؤكد على النزاهة والشفافية في ممارسة الوظائف العامة، ويهدف إلى الوقاية من الفساد وضمان الالتزام بالمصلحة العامة والحيلولة دون تضارب المصالح واستغلال المواقع والنفوذ من أجل تحقيق المصالح الخاصة، إذ جاء فيه «يُحظر على أعضاء الحكومة ومنتخبي المجالس المحلية ومؤسسات أخرى، وأيضا المسؤولين عن الهيئات العمومية، أن يتعاملوا في أي مجال أو يستفيدوا من المصالح المالية أو الشخصية التي تتعارض مع واجبهم في ممارسة وظائفهم».
○ في هذا السياق، هل تعتقدون أن الترسانة القانونية الحالية لم تعد كافية لمحاربة الفساد؟ وبالتالي هل ثمة حاجة إلى تعديلات تشريعية أكثر صرامة؟
• في تقديري المتواضع، هناك نصوص قانونية، لكن المعضلة في المغرب أن المشكلة ليست في النصوص، فالدستور يتحدث عن ربط المسؤولية بالمحاسبة وعن تخليق الحياة العامة وعن جودة الخدمات العمومية وعن مساواة المواطنين أمام القانون وعن تجريم استغلال الوظائف العمومية، رغم ذلك فإن الإرادة السياسية في هذا الإطار تبدو مترددة وضعيفة في مواجهة مظاهر الفساد والإفلات من العقاب.
ومع ذلك، فنحن أيضا في حاجة إلى نصوص قانونية، تتعلق مثلا بتجريم الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح واستغلال المِلك العمومي، وكذلك بحماية الموظفين المبلّغين عن جرائم الفساد.
للأسف الشديد، أن الحكومة المغربية الحالية انقلبت على المقتضيات الدستورية، ونظرا لقوة وتغول التوجّه المستفيد من واقع الريع والفساد والمناهضة لأي تحول ديمقراطي، فإن ذلك التوجه بامتداداته الاجتماعية والمؤسساتية استطاع أن يقوّض انتظارات المغاربة في الانتقال إلى دولة الحق والقانون.
○ وإلى أي حد يمكن تفعيل دور القضاء في محاربة الفساد وضمان استقلاليته التامة؟
• كما قلت سابقا، إن المراكز والقوى المستفيدة من واقع الفساد والمراكمة للثروة باستغلال مواقع الامتياز والاحتكار والوظيفة العمومية انقلبت على الفصل الـ 36 من الدستور، وتحدث رئيس الحكومة من داخل قبة البرلمان عن أحقية شركته في الفوز بصفقة تحلية مياه البحر في الدار البيضاء، ووزير العدل اليوم يتحدث أيضا عن تقييد الجمعيات والأفراد للتبليغ عن جرائم المال العام. بل الأكثر من ذلك، أن تغول هذه المراكز والقوى امتد إلى النيابة العامة، ومنعها من التحرك التلقائي ضد لصوص المال العام، من خلال تقييد النيابة العامة في تحريك الأبحاث والمتابعات القضائية في ضرورة إحالة تقارير الرسمية عليها من طرف «المجلس الأعلى للحسابات» أو «الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها» أو «المفتشية العامة للمالية» أو «وزارة الداخلية»، بمعنى أن القضاء اليوم سيصبح تحت رحمة القرار السياسي، وتصبح استقلالية النيابة العامة مهددة، وتصبح القوى المستفيدة من ذلك الواقع تخلق دولة وسط دولة، تضرب فيها قواعد دستورية أساسية مثل المساواة أمام القانون وحق البرلمان في التصويت والتشريع.
والملاحظ أن وزير العدل أقسم بأن المادة الثالثة من مشروع قانون المسطرة الجنائية سيتم تمريرها كما هي، إذ جاء فيها «لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك».
بمعنى أن الوزير يصادر حتى دور البرلمان، ولذلك ففي مثل هذه الأجواء لا أعتقد أن السلطة القضائية سيكون لها دور حاسم في هذا المجال، وإن كنا نتمنى أن يقوم القضاء والأجهزة الرقابية والأجهزة الأمنية بدورها في التصدي للفساد والرشوة ونهب المال العام، فهذه قضايا حارقة ومؤرقة تقوض جهود الدولة في مجال التنمية وفرص التقدم والاستثمار، وتجعل المغرب يحتل مراتب متأخرة في مجال الشفافية والتنمية. إن كسب الرهانات الداخلية والخارجية بالنسبة للمغرب لا يمكن أن يتأتى إلا بمضاعفة جهود مكافحة الفساد ونهب المال العام وتوسيع صلاحيات مؤسسات الحوْكمة.

مؤسسات «صورية»

○ هذا الواقع الذي قدمتم حوله هذا التوصيف، هل ينعكس سلبا على أداء بعض المؤسسات العمومية المعنية بمحاربة الفساد من قبيل «الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها»؟
• كما قلت سابقا، فإن قوة المراكز المستفيدة من واقع الفساد والتراكم غير المشروع للثروة ليست لها مصلحة في حدوث أي تقدم ديمقراطي. وبالتالي، فإنها تقوض كل المبادرات وكل الإجراءات التي من شأنها أن تحدث اختراقا في الجدار السميك للفساد. وفي هذا الإطار، رأينا كيف هذا التوجه حول مؤسسات الحوْكمة إلى مؤسسات صورية، فقد هاجم «الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها» وسَفّه مُنتجَها، ورأينا أيضا كيف أن «مجلس المنافسة» يتوسل إلى شركات المحروقات والبنزين ويطالبها بالخضوع للقانون، دون أن يتوفر على القوة الضرورية لإلزامها بذلك.
وللأسف الشديد، فإن هذا التوجه حوّل مؤسسات الحوكمة إلى مؤسسات صورية وإلى جندي في معركة بدون سلاح.
○ حماية المُبلّغين عن الفساد تظل مسألة حساسة في المغرب، فهل توجد ضمانات حقيقية لحماية هؤلاء من الانتقام أو من ممارسات لاحقة جراء تبليغهم عن وقائع أو ادعاءات بوجود فساد؟
• للأسف، رغم وجود قانون خاص بحماية المُبلّغين والضحايا والشهود والخبراء، فإن الواقع يؤكد أن العديد من فاضحي الفساد والمُبلّغين عنه تعرضوا لمضايقات ولمتابعات قضائية، تارة تحت غطاء التشهير وتارة تحت غطاء نشر وقائع وادعاءات كاذبة، بدون فتح أي تحقيق بخصوص تلك الادعاءات، إذ يُطلب من المُبلّغ أن يثبت صحتها، في حين أنه في البلدان الديمقراطية بمجرد إثارة قضايا الفساد من طرف وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية والسياسية، فإن الأجهزة المكلفة تبادر إلى فتح بحث وتحقيق في الموضوع. بل إن مجرد انحراف أخلاقي لدى مسؤول ما أو لدى وزير معين، يدفعه إلى تقديم استقالته وعرض نفسه للمحاسبة.
أما في المغرب فإن المُبلّغين عن الفساد يتعرضون لمضايقات أو لانتقام مغلف بالمتابعات القضائية التي تحرمهم أحيانا حتى من عملهم ووظائفهم.

«غول» يهدد الدولة والمجتمع

○ في ظل هذا الواقع كما رسمتم ملامحه، ما الأدوار المنوطة بالمجتمع المدني وبالقوى المجتمعية الحية من أجل المساهمة في إشاعة ثقافة تخليق الحياة العامة؟
• في تقديري، إن المعركة ضد الفساد تشبه المعركة ضد الإرهاب، فهما وجهان لعملة واحدة. وأعتقد أن مكافحة الفساد تقتضي تجديد كل الآليات والإمكانيات المتوفرة، مؤسسيًا ومجتمعيا، سواء تعلق الأمر بالأحزاب أو بالجمعيات وبوسائل الإعلام وبالمؤسسات التعليمية والدينية… فكل هذه الآليات يجب استثمارها لمواجهة هذا الغول الذي أصبح يهدد الدولة والمجتمع، وأصبح ـ كما يقال ـ يمشي على رجليه في واضحة النهار، وأصبحت تداعياته خطيرة علينا جميعا. فالفساد لا يسلب فقط الموارد والمقدرات وإمكانيات المجتمع، بل إنه يسلب أيضا ـ وهذا هو الخطير ـ الأمل في المجتمع، لكونه يكرس فقدان الثقة، ويعمق الشعور بالظلم وبالغبن والإحساس بالتمييز والإحساس بـ«الحُكرة» (أي الاحتقار والهوان). لذلك، فمواجهة هذه الظاهرة أو هذه المعضلة استثمار تلك الإمكانيات.
للأسف، اليوم يتم الهجوم على المجتمع المدني ومحاولة استهدافه والتضييق عليه من خلال حملات منظمة مدروسة، من مواقع لها مصلحة في استمرار الفساد. وقد تابعنا كيف تحدث وزير العدل عن الموضوع، وتابعنا رئيس فريق حزب «الأصالة والمعاصرة» في مجلس النواب كيف سمى الجمعيات بـ«الشرذمة» ونعتها بـ «الابتزاز». وكل هذا يندرج في إطار انزعاج المراكز المستفيدة من الريع ومن الفساد والتي ليست لها مصلحة في تقدم المغرب، إنها تنزعج من الأصوات المنتقدة لواقع الفساد والمناهضة للريع والمطالِبة بربط المسؤولية بالمحاسبة. وهذا ينضاف ـ مثلا ـ إلى حرماننا في «الجمعية المغربية لحماية المال العام» من وصل الإيداع النهائي رغم مرور أكثر من عشر سنوات، وما زالت فروعنا في المدن لا تتوفر على هذا الوصل، فتجد نفسها مجبرة على عدم التحرك، لأنها تفتقر إلى هذه الوثيقة الإدارية.
أضف إلى ذلك أن مقتضيات المادة الثالثة من مشروع قانون المسطرة الجنائية التي أقسم وزير العدل بأنه سوف يمررها، وهذا القسم ـ في تقديري الشخصي ـ يعدّ بمثابة إعلان حالة استثناء، لأن هذا القانون يعلق الدستور والمواثيق الدولية ذات الصلة بمكافحة الفساد، كما يعلق التزامات المغرب بهذا الخصوص، ويعلق التراكمات والمكتسبات التي حققتها أجيال من المغاربة بتضحياتهم الجسام ونضالاتهم المستمرة. يأتي اليوم وزير العدل دون أن يقدم أي توصية ودون أن تكون له أي مساهمات في النضال الديمقراطي في المغرب هو وأمثاله، مثل رئيس فريقه الحزبي في مجلس النواب وغيره من برلمانيي الأغلبية، ليطالب بقطع رأس الجمعيات المناهضة للفساد من طرف الحكومة، دون حتى أن يخضع مشروع القانون المذكور للمناقشة أمام البرلمان، وكأنه يصادر حتى رأي المؤسسة التشريعية في هذا الإطار. وللأسف، حتى البرلمان الذي يعول عليه اليوم نلاحظ أن حوالي 30 برلمانيا متابعين أمام القضاء بتهم مشينة تتعلق باختلاس المال العام وبالرشوة واستغلال النفوذ والاتجار في المخدرات وتبييض الأموال. ومثل هذا البرلمان لا يستحق المغاربة، ولا يعوّل عليه في أن ينتصر للقضايا العادلة وفي أن يدافع كممثل للأمّة عن مصالح وحقوق المجتمع في التنمية والعدالة والديمقراطية.
○ أخيرًا، كيف تنظرون إلى مستقبل هذه المعركة، معركة محاربة الفساد في المغرب؟ وهل أنتم ـ رغم شراسة التوجه الذي تحدثتم عنها ـ متفائلون لإمكانية تغيير إيجابي في هذه المعركة لصالح الوطن والمواطنين؟
• هناك قولة شهيرة للشهيد مهدي عامل مفادها «لست مهزوما ما دمت تقاوم». ولذلك فإن الأمر لا يتعلق بالهزيمة، فنحن متفائلون، وسلاحنا هو الأمل في المستقبل، وسلاحنا هو أن تتصدى الدولة لمراكز ولوبيات تغولت على المجتمع واستغلت مواقع الامتياز والسلطة من أجل الإثراء غير المشروع؛ لأن هذا التوجّه لا يهدد المجتمع فحسب، بل يهدد الدولة ومؤسساتها، ويريد أن يتغوّل على هذه المؤسسات باختراقها كما يحدث اليوم، على مسمع ومرأى من المجتمع ومن البرلمان، إذ هناك سعي لتفكيك واعتقال النيابة العامة والتضييق عليها في مجال أصيل لها بمقتضى المسطرة الجنائية وهو تحريك الأبحاث والمتابعات القضائية والتصدي للجرائم. هناك محاولة اليوم لخلق تمييز طبقي في المجتمع بين نخبة من المسؤولين والمنتخبين الذين يدبرون الشأن العام والذين يخضعون لمقتضيات امتيازية في البحث وفي المحاكمة مثل المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية وكذا المادة الثالثة من مشروع القانون المطروحة حاليا للمناقشة. ونعوّل على القوى الديمقراطية والحية، مدنية كانت أم نقابية أم سياسية أم جمعوية، من أجل العمل في جبهة واسعة للمساهمة في قلب موازين القوى لصالح القوى التي تسعى إلى تطور المغرب وتقدمه عبر تعميق الإصلاحات المؤسساتية والدستورية والسياسية؛ إذ إن استقرار المغرب وربحه كافة الرهانات والتحديات لن يتحقق إلا بتعزيز حكم القانون والتوزيع العادل للثروة وتخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد.

الطاهر الطويل

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات