هناك جانبان في الشجار الذي دار في البيت الأبيض يوم الجمعة بين الرئيس دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس من جهة، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي من جهة أخرى: واحد سياسي عام وآخر نفسي شخصي. كلاهما يكمل الآخر.
في الجانب السياسي لا شك أن أوكرانيا ستخسر كثيرا، وزيلنسكي يدفع ثمنا باهظا. ستخسر أوكرانيا دعما أمريكيا، عسكريا واستخباراتيا، ثمينا وحيويا لها في مجهود الحرب. الدعم الأمريكي لا غنى عنه ولا أحد يعوّضه، حتى أوروبا وحلف شمال الأطلسي مجتمعين.
منذ ذلك الشجار الغريب في دفاتر العمل الدبلوماسي، أصبح طريق أوكرانيا غامضا ومحفوفا بالمخاطر. كل التكهنات بشأنها متشائمة وقاتمة. الخطر على أوكرانيا والأوكرانيين أن ترامب، وبعد ما جرى، لن يقف على الحياد مكتوف الأيدي، وقد يجنح إلى دعم روسيا بأشكال عدّة أبسطها دبلوماسيا في الأمم المتحدة وخارجها. ذهنية ترامب النرجسية تجعله فريسة سهلة للكمائن التي تُنصب له. ولو عرفت القيادة الروسية كيف تلعب على هذا العامل ستنتزع منه الكثير.
إطلالة سريعة على الإعلام الغربي يوم السبت تعطي لمحة عمّا ينتظر ترامب وغريمه بعد شجار الجمعة. هناك إجماع على أن ترامب كان حادا، لكن مع تلميح إلى تفهم دوافع تلك الحدَّة. يقابل ذلك شبه إجماع على أن زيلنسكي تهوّر وأنه كان يستطيع التصرف بطريقة أكثر ذكاء، لكن مع تلميح إلى عدم تفهم أسباب «تهور» زيلنسكي. كثيرون كتبوا عن أهمية اعتذار زيلسنكي من ترامب، لكن لا أحد اقترح أن يعتذر ترامب ونائبه لزيلنسكي رغم معاملتهما المهينة له.
من هنا يمكن الجزم بأن العلاقة بين الطرفين لن تعود كما كانت ولن تكون متكافئة بالنظر إلى الخلل الكبير في قدرات الطرفين. ترامب يملك كل شيء وزيلنسكي لا يملك شيئا تقريبا.
بالنسبة لزيلنسكي شخصيا سيكون ما بعد الجمعة مختلفا عمّا قبلها رغم أنه، ظاهريا، أبلى بلاء حسنا في ذلك الحصار المطبق عليه والكمين الذي نصبه له ترامب وفانس. على الصعيد الشخصي وضع منصبه في خطر وربما حياته. داخليا، سيأتيه من يتهمه بالتهور ويحمّله مسؤولية الثمن الباهظ الذي سيتحتّم على أوكرانيا دفعه. وسيتعرّض لاتهامات وضغوط خارجية، في أفضل الأحوال ستنصحه بالتراجع والاعتذار لترامب، وفي أسوأها تضغط عليه للتنحي. وما سيزيد من متاعب الرئيس الأوكراني وجعل الضغوط عليه وجيهة أكثر، سوابقه مع الأوروبيين. فقد تسرّب من اجتماعاته مع القادة الأوروبيين أنه نهم لا يتوقف عن طلب المزيد: يقترحون 100 مليون يورو، يطلب 200. يقولون 300 يقول 500. كما يُسرّب عنه أنه لا يتوقف عن تذكير القادة الأوروبيين، بتعالٍ، بأنه لا يقاتل من أجل بلاده وحدها، وأن أوكرانيا تدافع عن أوروبا و«العالم الديمقراطي الحر».
يقود هذا الحديث إلى نقاش آخر لا يقل أهمية لكنه لم ينل نصيبه وسط الصخب الإعلامي الذي أعقب شجار الجمعة.
بدايةً، المنبع الأول والأهم لذلك العراك شخصي ربما قبل أن يكون سياسيا: رفضُ زيلنسكي الاستجابة لضغوط ترامب عليه في 2019 ليكشف له أسرار نجل الرئيس السابق، هنتر بايدن في أوكرانيا، وعجزُ ترامب عن غفران ذلك. ثم يأتي الباقي.. رجل نرجسي حاقد وآخر عنيد مغرور. واحد لديه الأنا منتفخ أكثر من اللازم وآخر لديه الأنا منتفخ حد الجنون. واحد لم يتعود على سماع كلمة لا، وآخر يعتقد أن العالم كله يجب أن ينحني له فقط لأن رجلا ثالثا اسمه بوتين احتل أرضه في غفلة من الجميع.
ليس من الصعب استخلاص أن غضب ترامب لم يكن حبا في أوكرانيا أو خوفا على شعبها وإنما ألماً من موقف عجز فيه عن تحويل رئيس دولة إلى مسخرة أمام العالم، كما فعل بآخرين قبله. وغضبه ليس على أوكرانيا أو الدماء المسفوكة فيها، ولكن حزنا على ضياع فرصة فرض سلام بين روسيا وأوكرانيا يدخله التاريخ ويحقق له مجدا تسير بذكره الركبان. لكن زيلنسكي، من حيث يدري أو لا يدري، أغلق هذا الباب ولو مؤقتا وإنْ بثمن باهظ مرتقب.
رغم كل عيوبه واختلافاتنا الجذرية معه، يستحق زيلنسكي أن يُحسب له أنه قدّم لقادة العالم خدمة عنوانها «بإمكانكم أن تذهبوا إليه في البيت الأبيض وتجادلوه وتُسمعوه صوتكم» خصوصا القادة المذعورين من ترامب الذين لا سند لهم في بلدانهم، وفي مقدمتهم العرب.
هناك مجهود عفوي يتراكم لثقب فقاعة ترامب وقد ينتهي بإفراغها من هوائها. بدأت هذا المجهود حركة حماس منتصف الشهر الماضي عندما هددها ترامب وأمهلها أربعة أيام للإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين دفعة واحدة بحلول منتصف نهار السبت 15 من الشهر، وإلا سيفتح عليها أبواب الجحيم. حلّ السبت ومضى ولم تطلق حماس إلا ثلاثة أسرى فلم يجد ترامب ما يفعل سوى القول إنه يترك لإسرائيل تقدير الموقف ويدعمها في ما تقرر. ثم جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبإنكليزية مشوَّهة لكن بثقة واضحة في النفس، قارع ترامب ومنعه من فرض مغالطاته. وتبعه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، ثم تبعهم زيلنسكي ليضع، متعمدا أو لا، بصْمَته في هذا المجهود.
بهذا الزخم ستُفرغ الفقاعة من كل هوائها قبل أن يكمل الرجل مئة يوم في المكتب البيضاوي.
لا إسهاب لديَّ عن القادة العرب وموقعهم في هذه المعادلة سوى أُمنية: ليت بينهم واحد مثل زيلنسكي بكل عيوبه. أو ليتهم يتعلمون منه.
توفيق رباحي
تعليقات الزوار
لا تعليقات