أيقظت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول قضية الكاتب المعتقل بوعلام صنصال، من جديد، مشاعر الغضب في الجزائر، بتوظيفه لكلمات بدت “مسيئة” و”جارحة” و”مضللة” تستهدف بلادهم.
وتُهدِّد هذه الحادثة بإشعال حرب دبلوماسية مفتوحة، تشبه تلك التي خلَّفتها تصريحاته الشهيرة نهاية أيلول/سبتمبر 2021، عندما أساء للتاريخ الجزائري.
في حديثه أمام سفراء بلاده المجتمعين في قصر الإليزيه، انتقى ماكرون كلمات كان لها وقعٌ سيئ في الجزائر، فقد تحدث عن “فقدان الشرف”، بخصوص قضية اعتقال الكاتب بوعلام صنصال، الذي شكَّك في أحقية الحدود الجزائرية.
وقال الرئيس الفرنسي إنَّ “الجزائر التي نحبها كثيراً، والتي نتشارك معها الكثير من الأبناء والكثير من القصص، تسيء إلى سمعتها، من خلال منع رجل مريض بشدة من الحصول على العلاج”.
وتابع: “نحن الذين نحب الشعب الجزائري وتاريخه، أحثُّ حكومته على إطلاق سراح بوعلام صنصال”، مضيفاً أنَّ هذا “المناضل من أجل الحرية.. محتجز بطريقة تعسفية تماماً من قِبل المسؤولين الجزائريين”.
وقد اختارت وكالة الأنباء الفرنسية معنىً ملطَّفاً لكلمة DESHONEUR التي استعملها ماكرون بترجمتها إلى “إساءة السمعة”، بينما تحمل هذه الكلمة في دلالتها عدة معانٍ، منها الإساءة للشرف، أو فقدان الشرف. ولأنَّ كثيراً من الجزائريين يتقنون الفرنسية، ويعلمون مدلولات ألفاظها، اعتُبرت هذه الكلمة بمثابة شتيمة لبلادهم، ومحاولةَ تقديم دروس في الأخلاق من قِبل رئيس يمثل دولة استعمرت بلادهم وارتكبت كل المجازر الممكنة فيها، وهي اليوم ترفض حتى الاعتراف بهذا الماضي، دون أي اعتبار للشرف وكرامة الإنسان. والغريب، وفق تعليقات بعض الجزائريين، أنَّ ماكرون تعمَّد التضليل بالقول إنَّ صنصال ممنوع من تلقي العلاج، في حين أنَّه نُقل للمستشفى لتلقي العلاج في إطار الإجراءات القضائية المعمول بها للمساجين.
وتُحيل تصريحات ماكرون إلى ما سبق له الإدلاء به في أيلول/سبتمبر 2021، مثيراً عاصفة هوجاء بين البلدين، عندما قال إنَّ النظام “السياسي العسكري الذي بنى نفسه على ريع الذاكرة الاستعمارية وكراهية فرنسا، منهك من أثر الحراك الشعبي”، معتبراً أنَّ الرئيس عبد المجيد تبون “عالق في نظام شديد القسوة”.
وذهب ماكرون بعيداً في كلامه لدرجة الإساءة للتاريخ الجزائري، عبر الزعم بأنَّ الأمة الجزائرية لم تكن موجودة في التاريخ، وأنَّ الاستعمار الفرنسي هو من أوجد الجزائر، مستعيداً أطروحات يمينية ظلَّت تُستعمل لتبرير احتلال الجزائر. وكان ذلك التصريح، الذي نقلته جريدة “لوموند” الفرنسية بمناسبة لقاء جمعه مع أحفاد المهاجرين الجزائريين، سواء من الذين شاركوا في حرب التحرير، أو قاتلوا بجانب فرنسا (الحركى) أو من العمال واليهود وغيرهم.
وبدا أنَّ ماكرون لم يرتدع من تلك التصريحات التي استغرقت وقتاً طويلاً لتجاوزها، مكرراً أسلوبه “المستفز” في الحديث عن الجزائر والعديد من بلدان القارة الأفريقية التي أصدرت بيانات تهاجم فيها تصريحاته. وبالقياس على ما خلَّفته التصريحات السابقة، يُنتظر أن يترك كلام ماكرون أثراً بالغاً في علاقات هي في الأصل هشَّة ومفكَّكة، وفق توقعات مراقبين.
ردود فعل
وفي أول ردِّ فعل رسمي، استنكر مكتب المجلس الشعبي الوطني، الإثنين، بشدَّة ما وصفها بـ”التصريحات غير المسؤولة التي أدلى بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تجاه الجزائر”. وذكر بيان الغرفة الأولى للبرلمان، أنَّ مكتب المجلس، برئاسة إبراهيم بوغالي، رئيس المجلس الشعبي الوطني، عبَّر عن رفضه التام للتصريحات التي وصفها بالتدخل السافر في الشؤون الداخلية للجزائر، مشيراً إلى أنَّها تمسُّ بسيادتها وكرامتها بشأن قضية قيد النظر وفق القوانين الجزائرية. كما أشار إلى أنَّها “محاولة غير خافية لتشويه صورة الجزائر ومؤسساتها السيادية”.
وأكَّد مكتب المجلس الشعبي الوطني أنَّ “الجزائر، التي شهدت أبشع الانتهاكات خلال فترة الاستعمار الفرنسي، ترفض أي تدخل خارجي، أو محاولات لتوجيه دروس في مجال حقوق الإنسان والحريات”، معتبراً أنَّ “مثل هذه التصرفات تظل غير مقبولة من قِبل الشعب الجزائري، ولن تؤثر على مسار الجزائر المستقل، بل ستعزز من عزيمتها وإصرارها في الدفاع عن سيادتها وكرامتها”.
وختم المكتب بدعوة السلطات الفرنسية إلى الالتزام بقواعد العلاقات الدولية التي تقوم على الاحترام المتبادل.
وفي تعليقه على هذه التصريحات، انتقد الدبلوماسي السابق عبد العزيز رحابي، في صفحته على فيسبوك، تحويل الجزائر إلى قضية سياسية داخلية بالنسبة لفرنسا، مشيراً إلى أنَّ ذلك “يبعد أي أفق لتطبيع العلاقات”. وقال: “وزير الخارجية الفرنسي بارو يشكك البارحة في صلاحية قراراتنا، والرئيس ماكرون يقلّل اليوم من شرف الجزائر إلى هذا الحدّ. إنَّ تحويل بلدنا إلى قضية سياسية داخلية بالنسبة لفرنسا يبعد أي أفق لتطبيع العلاقات التي يتمناها أصحاب النوايا الحسنة في البلدين”.
وكان رحابي يشير إلى تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، جان-نويل بارو، الأخيرة التي أعرب فيها عن شكوكه حيال نوايا الجزائر، مشيراً إلى أنَّ تصرفات السلطات الجزائرية “تثير تساؤلات حول التزامها بخارطة الطريق المشتركة”. كما انتقد قرار الجزائر بحبس الكاتب بوعلام صنصال، معتبراً أنَّ الأسباب “غير مبررة”.
من جانبه، طرح الصحفي خالد درارني، ممثل “مراسلون بلا حدود” في شمال إفريقيا، تساؤلات حول تصريحات الرئيس الفرنسي قائلاً: “لماذا المشاركة في لعبة اليمين المتطرف الفرنسي التي تسعى بكل جهد، من منظور جزائري، لإغراق بوعلام صنصال بخطابات مهينة؟”.
وأوضح درارني أنَّ العديد من الجزائريين، على الرغم من شعورهم بالصدمة إزاء تصريحات الكاتب صنصال ذات الطابع العنصري والمتطرف، والتي وصف فيها الجزائر بازدراء بأنها مجرد “شيء”، قد عبَّروا عن رفضهم لاعتقاله. وأضاف أنَّ “إصدار رئيس دولة فرنسية حكماً أخلاقياً على الجزائر في هذه القضية ليس من شأنه إلا أن يزيد الوضع تعقيداً بالنسبة لهذا المواطن الجزائري.” وأشار درارني إلى أنَّ هذه التصريحات تُفاقم الأزمة وتدفع نحو تصعيد يمكن تجنبه.
وختم قائلاً: “لا تلعبوا بالرموز، اهدؤوا يا سيادة الرئيس”.
عودة اليمين المتطرف
وتأتي هذه التطورات في سياق استعادة اليمين المتطرف الفرنسي لنبرته العدائية ضد الجزائر، على خلفية اعتقال عدد من المؤثرين الجزائريين المقيمين على التراب الفرنسي، والذين تتهمهم النيابة الفرنسية بالتحريض على العنف والإرهاب عبر استهداف معارضين جزائريين في الخارج. ودفع ذلك سيباستيان شينو، نائب رئيس “حزب التجمع الوطني” المتطرف، إلى التصريح بأنَّ “فرنسا تُهان وتُداس من قِبل الجزائر”، متسائلاً عما إذا كانت الجزائر تسعى إلى زعزعة استقرار فرنسا باستخدام هؤلاء المؤثرين.
وأضاف: “هناك تزامن واضح في خطابات هؤلاء، ما يشير إلى وجود حملة منظمة تستهدف فرنسا”.
وتعيش العلاقات الجزائرية الفرنسية حالياً أسوأ حالاتها، منذ شهر تموز/يوليو الماضي، بعد قرار الرئيس الفرنسي الاعتراف بخطة الحكم الذاتي المغربية كأساس وحيد لحل النزاع في الصحراء الغربية، وهو ما ترفضه الجزائر التي تؤكد على حق الصحراويين في تقرير مصيرهم وفقاً لمقررات الأمم المتحدة.
وكان الرئيس الجزائري، في خطابه الأخير أمام برلمان بلاده، قد هاجم بشدة السلطات الفرنسية، معتبراً أنَّها الصانع الفعلي لخطة الحكم الذاتي.
تعليقات الزوار
لا تعليقات