بالرغم من التطور التكنولوجي والتأطير الحديث الذي فرضته الثورات التكنولوجية الجديدة، إلا أن الزوايا (المنظمات الصوفية) الجزائرية تشكل النواة الصلبة للمشهد الديني في البلاد، لما تمتلكه من هيمنة واسعة في الحشد والتعبئة، وسيطرة كبيرة في صياغة الفعل الديني الاجتماعي والنفسي، مما يجعلها تتحكم في مفاصل التصور الديني للمجتمع والمحدد للسلوك الجمعي، إلا أن السنوات الأخيرة ظهرت مجموعة من المستجدات وضعت الزوايا الجزائر في موقع صعب أكدت العديد من المؤشرات خلالا كبيرا في مفاصل وجودها في المشهد، وبالذات مشكلة إمكانية العبور نحو المؤسسة.
الاستيعاب الاجتماعي
لقد تولت الزوايا الجزائرية (منذ فترة الاستعمار الفرنسي الذي تجاوز القرن واثنين وثلاثين عاما) مهمة الاستيعاب الاجتماعي عبر القيام بالتكفل بهموم الشأن العام، كونها المؤسسة الوحيدة (في غالبيتها) التي تمكنت من النجاة من السيطرة الاستعمارية الفرنسية، التي أزاحت من المشهد كل المؤسسات، وعوضتها بمؤسسات استعمارية لم تحقق الالتفاف الاجتماعي، وهي المهمة التي استمرت لما بعد الاستعمار وبقيت تمارس هذه المهمة طوال فترة الاستقلال وانسجمت بشكل كبير مع الدولة الوطنية التي وجدت فيها المرتكز الأقوى في إدارة الشأن العام، ولكن ظهور الجماعات الإسلامية وبالذات الجهادية منها، كادت أن تعصف بالزوايا كونها أصابتها في مقتل، ولكن سرعان ما استعادت الزوايا هيمنتها على المشهد الاجتماعي من جديد وبالذات بداية سنة 2000، للتحول إلى موقع القوة الضاربة في التأطير الاجتماعي.
لقد كانت الزوايا الجزائرية بالنسبة إلى صانع القرار الوسيلة الأقوى للاستثمار في نفوذها المتصاعد لما بعد فترة الإرهاب، عبر الحصول على ما تمتلكه من القدرة على الحشد التعبوي وما يقدمه من دعم ومساندة للخيارات الكبرى، زيادة على إزاحتها لكل ما هو متوقع من أشكال وسلوك الاعتراض عليها، مما جعلها في الصفوف الأولى للتحكم في الحشد التعبوي للخيارات الكبرى، مسخرة إمكانياتها القوية (الخطاب والنفوذ والمخيال والكاريزما)، مستغلة ضعف وتردد القوى الأخرى في المجتمع، التي اكتفت بالمناسبات العابرة تاركة التأطير اليومي للمشهد الاجتماعي، مما جنب صاحب القرار الكثير من الصعوبات ووفر لها أريحية واسعة في التحرك.
عند التمعن في الإدراك الديني في النسق الجمعي، نجد أن هذا الإدراك تتحكم الزوايا في تشكيلته الكلية، بالرغم من المزاحة الشديدة للتيارات الدينية الأخرى (الإخوانية على وجه الخصوص)، ولهذا فإن السلوك الديني الجمعي تحتكره الزوايا لما لها من حضور قوي عبر الامتداد التاريخي للمجتمع ومنذ زمن دولة المرابطين، وبالرغم من أن هذا الإدراك الديني يوصف بالتقليدي والبسيط والسطحي، إلا انه يتحكم حتى في الأجيال الجديدة التي تجد نفسها مستسلمة له في النهاية وغير قادرة على تجاوزه أو الانفلات من سيطرته، كون هذه الأجيال تفتقد للتيارات والنخب (العلمائية) التي تمكنها من صياغة إدراك يتناسب مع مستجدات العصر الحديث.
المعظلة المؤلمة
بالرغم من تحكمها في الإدراك الديني الجمعي وقوتها في الحشد الاجتماعي وعدم قيام نخب علمائية منافسة، إلا أن الزوايا الجزائرية بدأت تواجه مشكلة الاندثار من المشهد عبر تراجع نفوذها وتقلص حجم سطرتها، نتيجة استحوذ الثورات التكنولوجية الاتصالية الحديثة على السلوك الجمعي وبداية تحكمها في الأجيال الجديدة، زيادة على بدأت ضمور قيادتها وعدم بروز النخب القيادية البديلة التي تقود الزوايا، وأهم مشكلة عويصة تواجهها الزوايا في الجزائر إصرارها على العبور نحو العالم الجديد والانتقال إلى مرحلة المؤسسة، ورفضها لمشروع تحويل الزوايا إلى مؤسسات الذي طرحه الشيخ أحمد بن يوسف (أحد رموز الزوايا في الجزائر) في القرن السادس عشر.
تعليقات الزوار
لا تعليقات