في 17 آذار/مارس 2023 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية المدعومة من الأمم المتحدة مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولأن القرار تعلّق بمزاعم جرائم حرب متعلقة بـ«نقل أطفال بصورة غير قانونية» من أوكرانيا، فقد شملت المذكرة أيضا رئيسة «مفوضية حقوق الأطفال في روسيا» التي شاركت في جريمة الترحيل.
بعد أيام من القرار المذكور خرج جيرجيلي غولياس، رئيس ديوان رئيس الوزراء المجريّ فيكتور أوربان، في مؤتمر صحافي ليقول إن اعتقال بوتين «يتعارض مع القانون المجري» ورغم أن المجر عضو في المحكمة الدولية فإن غولياس رأى أن اعتقال بوتين ينتهك دستور وقانون المجر وأن «هذه القرارات تؤدي إلى التصعيد وليس نحو السلام»!
في المقابل، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن «سعادته بمذكرة الاعتقال» وطالب وزير خارجيته أنتوني بلينكن جميع الدول الأعضاء الالتزام بهذا القرار و«الوفاء بمذكرة الاعتقال» ورحّبت المتحدثة باسم «البيت الأبيض» كارين جان بيير بالقرار وكذلك فعل العديد من أعضاء الكونغرس، ومنهم ليندسي غراهام الذي قال حينها إن «بوتين مجرم حرب ويجب القبض عليه ومحاكمته في لاهاي».
في 21 تشرين ثاني/نوفمبر صدرت مذكرتا اعتقال لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه المقال يؤاف غالانت، وكانت قائمة الاتهامات الموجهة لهما أخطر بكثير من «ترحيل غير قانوني» للأطفال، فقد شملت هجمات على السكان المدنيين في قطاع غزة، واستخدام التجويع ضدهم كسلاح حرب، كما شملت القتل والاضطهاد كجرائم ضد الإنسانية.
في هذه المرة لم يكلّف رئيس وزراء المجر رئيس ديوانه بالردّ، ولم يترك الأمر يدوم لأيام، كما فعل حين تعلّق الأمر بصديقه بوتين، بل سارع إلى إرسال رسالة إلى نتنياهو في يوم إصدار المذكرة نفسه أعلن فيها دعمه فردّ نتنياهو على الرسالة بأحسن منها ليصدر مكتبه بيانا يعلن فيه شكره على «دعم رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان الحار لي ولدولة إسرائيل» معتبرا أن موقف الأخير «يظهر الوضوح الأخلاقي ويقف مع العدالة والحقيقة»!
بايدن، الذي كان سعيدا بقرار اتهام بوتين، حين وصل الأمر إلى نتنياهو وغالانت، رأى أن «إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال ضد زعماء إسرائيليين أمر مثير للغضب» وخرج متحدث باسم مجلس الأمن القومي في «البيت الأبيض» ليتحدث عن «قلق واشنطن العميق إزاء اندفاع المدعي العام لطلب مذكرات اعتقال» أما عضو مجلس الشيوخ غراهام فقد «استنكر بشدة» هذه المرة القرار وتحدث عن فرض عقوبات على كريم خان، المدعي العام للمحكمة، كما توعد مايك والتز، المرشح لمنصب مستشار «البيت الأبيض» لشؤون الأمن القومي في إدارة دونالد ترامب المقبلة، بـ«رد قوي» ضد المحكمة عند تولّي ترامب منصبه في كانون أول/يناير المقبل.
أعلن أوربان، الذي تترأس بلاده حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، في حزيران/يونيو الماضي، عن تشكيل تحالف للأحزاب اليمينية المتطرّفة في أوروبا، يهدف إلى «جعل أوروبا عظيمة مجددا» في استعادة لشعار تيار «ماغا» (لنعد أمريكا عظيمة مجددا) الترامبي، ومعلوم أن أوربان، مثل نظرائه في أوروبا، يتبنون خطابا عنصريا وقوميا متطرّفا ضد المهاجرين والأقليات، وأنهم، بشكل عام، قريبون من خط بوتين أيضا، ويجمعهم الحنين لأنظمة العنصرية الفاشيّة والاستعمارية (حين كانت أوروبا عظيمة!).
معلوم طبعا أن مواقف ترامب الداخلية والخارجية أقرب لمواقف هذه الأحزاب العنصرية والفاشية الجذور، وهو ما يجعل انحيازه لإسرائيل، وتقاربه الشخصي مع بوتين، واضحين، ولا تلبث التناقضات أن تظهر حين يتعلق الأمر ببايدن وإدارته الديمقراطية، الذي يعرب عن «سعادته» حين تصدر قرارا ضد بوتين، ثم يكشف «غضبه» و«قلقه» و«استنكاره» حين يتعلّق الأمر بنتنياهو، وهو أمر سنراه بأشكال متدرّجة ومتناقضة مع بعض الدول الأوروبية، التي تعرف أن رفض قرار المحكمة الدولية والتهجم عليها سيعني بداية نهاية النظام العالمي، أما القبول بالقرار فيضعها، بسبب ظروف تشكيلها أو النفوذ الهائل للجاليات واللوبيات الإسرائيلية فيه (كما هو حال ألمانيا وبريطانيا وفرنسا) في مأزق قانوني وأخلاقي كبير.
تعليقات الزوار
لا تعليقات