يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، عن عمد وسبق إصرار وبرغبة جامحة، تخلى الإعلام الغربي في مجمله عن حيائه وكرامته وما كان يسميها قيَمه.
في ذلك اليوم استسلم هذا الإعلام لإسرائيل وسرديتها وإرهابها بِحبٍّ وفخر. بسرعة كبيرة تبنَّى الأكاذيب التي سوّقتها الآلة الدعائية الإسرائيلية، وأبرزها الأربعون رضيعا وتفاصيل شيهم أحياء في الأفران وتعليق بعضهم بحمّالات صدر أمهاتهم، وبطون الحوامل التي بقرها مقاتلو حماس، والفتيات اليافعات اللواتي ذبحوهن وفي اللحظة ذاتها كانوا يتلذذون باغتصابهن وغير ذلك من القصص التي لا يصدقها عقل طفل.
لحظة بدأت الآلة الإسرائيلية في تسويق أكاذيب ما حدث في ذلك اليوم فقدت الحقيقة أهميتها. لم تعد الوقائع مهمة. يكفي أن إسرائيل قالت (مثلما قالت في حوادث أمستردام فتقبَّل العالم واستسلم لما قالت). المهم أن على الإعلام الغربي استلام الرواية الإسرائيلية كما هي ثم الترويج لها بحماس ومغالاة.
في ذلك اليوم دخل العالم عصر البغاء الإعلامي. دشّن الإعلام الغربي، بمختلف لغاته وتوجهاته، عهده الجديد. خلال عام واحد شاهد العالم من الإفك والموبقات الإعلامية ما لم يشاهد خلال عقود طويلة جدا. أشياء تخجل منها الإنسانية.. الكذب والافتراء والتضليل والنفاق والتنمر والكراهية والعنصرية والحقد والإرهاب الوظيفي والإداري وغير ذلك. في ذلك العام أخرج الإعلام الغربي أسوأ ما فيه، فلا عتب على الذين فقدوا إيمانهم بهذا الإعلام وأصبحوا يمقتونه ويحتقرون المنتسبين إليه.
كان من المفروض أن دروس عام بعد السابع من أكتوبر تكفي وتزيد لدفع هذا الإعلام والقيِّمين عليه إلى مراجعة أنفسهم والتوبة. لكن لا مراجعة ولا شعور بالعار ولا توبة.
بالعكس، ها هو ذلك الإعلام يدشّن أحدث فصل في رحلة البغاء. في الأيام التي أعقبت فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية تابعتُ الصحافة الغربية أكثر من المألوف وبثلاث لغات. حرصت على متابعة كل الأنواع الصحافية من تحليلات وتعليقات ومقالات رأي ومقابلات.
قرأت واستمعت للكثير من محاولات تفسير سبب خسارة كمالا هاريس. قالوا إنه الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي للأمريكيين، وقالوا إنه عزوف فئات كثيرة من الناخبين. تحدثوا عن النساء، ثم الأقليات. قالوا إنها القيم الإنسانية والأخلاقية التي تخلى عنها الديمقراطيون. أثاروا كل ما يخطر على البال من أسباب ومبررات، إلا واحد: الإبادة في غزة وإصرار هاريس على دعمها.
سأبقى على يقين من أنه لو كانت أيّ دولة أخرى غير إسرائيل هي التي ترتكب الإبادة في غزة (أو غيرها) وكان ذلك من أسباب خسارة هاريس، لاختلفت السردية والتعاطي الإعلامي الغربي. كانوا سيسارعون إلى وضع غزة على ضمن أول ثلاثة أو أربعة أسباب لنكسة هاريس. قديما علمونا أن حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين. في هذا العام تأكد لنا (ما كنا نعرف) أن حرية الغرب السياسية والإعلامية مطلقة لكنها تنتهي عندما تبدأ جرائم إسرائيل.
هل كانت غزة العامل الوحيد والحاسم في انتكاسة هاريس؟ طبعا لم يكن الأمر كذلك. لكن غزة كانت حتما كافية لترامب، رغم كل عيوبه ونقائصه ومخاطره، ليحصد أصوات فئات عريضة من الناخبين العرب والمسلمين. حصاد مباشر أو بالامتناع أو بالتصويت لمرشح ثالث، خصوصا في الولايات المتأرجحة وأبرزها ميشيغن.
السيناتور اليساري بريني ساندرز (84 سنة) حدد أسباب نكسة هاريس (التي تستحق أكثر منها بالمناسبة) في ثلاثة: التفاوت الاقتصادي بين الأمريكيين، وتآكل النظام الصحي وفلسطين. قال ساندرز إن حزب الديمقراطيين تخلى عن الأمريكيين بسهولة فردوا بالتخلي عنه بسهولة أكبر.
لكن لماذا يرفض الإعلام الأمريكي، ومن ورائه الإعلام الغربي، الاعتراف صراحة بأن غزة ساهمت في الإطاحة بهاريس والديمقراطيين؟ لأن الاعتراف يحمل بالضرورة تذكيرا بما تفعل إسرائيل في غزة. وإسرائيل لا توزع حلوى وورودا على سكان غزة، بل قنابل ضخمة متطورة وأسلحة محرَّمة دوليا وقانونا. وهذه الأسلحة أمريكية الصنع تُشحن عبر جسر جوي يومي مستمر منذ أكثر من سنة رغم صور الإبادة والدمار القادمة من غزة التي تمزق القلوب.
اعتراف الإعلام الغربي، الذي انحاز أغلبه لهاريس، بدور غزة كان سيحمل بالضرورة تذكيرا بالعار الأكبر.. جرائم إسرائيل وشريكتها أمريكا. ويُذكِّر بأن هاريس، وخوفا من المتبرعين الداعمين لإسرائيل، لم تمتلك شجاعة الاستماع إلى دعاة وقف الحرب على غزة. ولم تمتلك شجاعة إشراك أمريكي عربي أو مسلم أو مناهض للحرب على غزة في مقدمة النشاطات الانتخابية التي نظمتها خلال 14 أسبوعا هي فترة حملتها الانتخابية بعد تزكيتها.
أيضا، اعتراف الإعلام الأمريكي والغربي بأن غزة ساهمت في عقاب هاريس يتطلب شجاعة أخلاقية ومهنية غير متوفرة لدى هذا الإعلام الذي تفوق في مغالاته واندفاعه لإسرائيل على الإعلام الإسرائيلي. هذه الشجاعة يترتب عنها عصيان طاعة اللوبيات اليهودية والإسرائيلية في الغرب وحسبان حساب ردات فعلها المحتملة.
حرجُ الإعلام الغربي الآخر، عدا السجن الذي هو فيه، أنه بعد انحيازه المفضوح لإسرائيل طيلة عام، يحتاج إلى ثورة تُطهِّر قليلا من دنسه. ومشكلته أنه مرتاح في سجنه لا يريد هذه الثورة ولا يريد التطهُّر، كما يبدو.
الاعتراف بدور غزة يعني كذلك منح كتل بشرية وانتخابية أخرى، غير اللوبيات الإسرائيلية، مساحة في لعبة التأثير الانتخابي في الولايات المتحدة. وهذا ما لا يمكن التسامح معه لأنه مساس بالمحرّم. التأثير في اللعبة يجب أن يبقى من نصيب تلك اللوبيات ولا أحد غيرها، مثل المظلومية وريوعها التي يجب أن تبقى تجارة إسرائيلية لا يحق لأحد الاقتراب منها، على الرغم من أن ما فعله الرجل الغربي الأبيض ببعض الشعوب الإفريقية والآسيوية ليس قليلا على الإطلاق.
توفيق رباحي
تعليقات الزوار
لا تعليقات