على وقع الاعتقالات والملاحقات القضائية تستعد تونس للدخول في السباق الرئاسي في مناخ سياسي متوتر. فمنذ الإعلان عن موعد يوم الاقتراع في الدور الأول للانتخابات الرئاسية والذي سيكون يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر المقبل لم تتوقف وتيرة التتبعات القضائية ضد من أعلنوا عن نيتهم الترشح للانتخابات الرئاسية أو من المحيطين بهم أو من دوائر المعارضة عموما. فقد قرّر عميد قضاة التحقيق بمحكمة تونس الابتدائية منع السفر عن أمين عام حزب «العمل والإنجاز» والمرشح الرئاسي عبد اللطيف المكي وتحديد مقر إقامة، كما تم منع ظهوره الإعلامي.
وأعلن حزب «العمل والإنجاز» أن أمينه العام عبد اللطيف المكي تلقى استدعاءً من النيابة العامة للحضور أمام قاضي تحقيق بشأن وفاة برلماني سابق عام 2014. وكان الحزب أعلن اعتزامه ترشيح المكي وهو زير الصحة الأسبق لانتخابات الرئاسة المنتظرة، وقال الحزب في بيان: «في ظرف خمسة أيام فقط من هذا الإعلان الأولي عن الترشيح، تلقى عبد اللطيف المكي استدعاءً للحضور أمام قاضي التحقيق يوم الجمعة 12 تموز/يوليو الجاري في ما يعرف بقضية وفاة الجيلاني الدبوسي». وأضاف أن المكي، «بضمير مرتاح وبراءة واثقة، سيمثل أمام القضاء». وفي السياق نفسه أعلنت حركة النهضة المعارضة إن الشرطة احتجزت الأمين العام للحركة العجمي الوريمي بدون إذن قضائي أو اتهام.
أبرز المترشحين
وكان رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فاروق بوعسكر، قد أعلن أن الهيئة ستفتح باب قبول طلبات الترشح، اعتبارا من صباح التاسع والعشرين من شهر تموز/يوليو الجاري، وحتى مساء السادس من آب/اغسطس. وشدد بوعسكر على أن خلو ملف المترشح من السوابق القانونية، يمثل أحد أبرز شروط الترشح للانتخابات الرئاسية، وأن على الراغب في خوض المنافسة الانتخابية، تقديم كل الوثائق التي حددتها الهيئة، وإلا اُعتبر ترشحه لاغيا.
وقد سبق ان أعلن 11 ناشطا سياسيا إلى حد الآن عن نيتهم الترشح للانتخابات، وسط تساؤلات حول مدى جدية المناخ العام لإجراء انتخابات شفافة تؤمن ظروف التنافس بين المرشحين. ومن بين هؤلاء الذين عبروا عن نيتهم الترشح أمين عام الحزب الجمهوري وعضو جبهة الخلاص الوطني عصام الشابي، المسجون منذ عام ونصف العام بتهمة «التآمر على أمن الدولة».
كما سبق أن أعلن الحزب الدستوري الحر، انه سيرشح زعيمته عبير موسي، التي تقبع في السجن منذ تشرين الأول/اكتوبر من العام الماضي، بتهمة «معالجة بيانات شخصية وعرقلة الحق في العمل والاعتداء بقصد إثارة الفوضى». كما تم إعلان ترشيح أمين عام حزب العمل والإنجاز عبد اللطيف المكي، الذي كان قياديا في حركة النهضة.
وأعلن أمين عام حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري لطفي المرايحي، اعتزامه الترشح للانتخابات الرئاسية لهذا العام ومثله فعل الكاتب الصحافي الصافي سعيد. وتعرض المرايحي لملاحقة قضائية وصدر ضده حكم غيابي بالسجن لمدة أربعة أشهر بسبب اتهامه من جانب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، بـ«تدليس التزكيات الخاصة بالانتخابات الرئاسية لسنة 2014». وفي السياق نفسه، يواجه الوزير السابق في عهد بن علي منذر الزنايدي المقيم في فرنسا، ملاحقة قضائية بشبهة فساد مالي وقد اعرب عن رغبته بالترشح للانتخابات.
وفي الوقت الذي تتهم فيه المعارضة النظام السياسي بتوتير الأجواء وترهيب كل مترشح جدي للانتخابات، قال رئيس الجمهورية قيس سعيد لدى استقباله لوزير الداخلية ولكاتب الدولة المكلف بالأمن إنه يتعرض لمحاولة تأجيج ما يتطلب مضاعفة الجهود وفرض احترام القانون ضد كل محاولات توتير الأوضاع الاجتماعية بشتى الطرق، أو محاولات اللوبيات التأثير من وراء الستار في العملية الانتخابية، حسب قوله.
مرحلة انتخابية مفصلية
تمرّ تونس اليوم بمرحلة انتخابية مفصلية في جو قضائي صعب مع تزايد وتيرة الملاحقات لنشطاء سياسيين معارضين وحقوقيين وإعلاميين، وذلك حسب مراقبين، ويؤثر ذلك سلبا على أجواء الانتخابات خاصة فيما يتعلق بتوفير شروط التنافس وإعداد ملفات المترشحين وجمع التزكيات اللازمة التي ينصّ عليها القانون الانتخابي.
كل ذلك يطرح تساؤلات حول مشهدية الانتخابات ومدى إمكانية انصراف المرشحين إلى إطلاق حملاتهم الانتخابية بحرية مثل إجراء المناظرات والحوارات وتقديم البرامج الانتخابية، ومدى تأثير ذلك على آليات الانتخابات والإشراف عليها. فتونس ورغم كل صعوبات العشرية الأخيرة ومآزقها إلا انها قطفت ثمار ديمقراطية وليدة انتخب بفضلها الرئيس قيس سعيد رئيسا في أجواء انتخابية شفافة وعادلة ونزيهة وتمتع بمناظرة تلفزية، فهل تتوفر كل هذه الشروط لمنافسيه اليوم؟
فاليوم وفي خضم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمالية التي تعيشها البلاد مع عدم تمكنها من الوصول إلى مصادر التمويل العالمية مثل صندوق النقد الدولي، وبينما تصارع الحكومة من أجل تأمين نفقات الميزانية وسداد الدين الخارجي وتلبية رواتب القطاع العام، تًشكل الانتخابات الرئاسية رهانا صعبا بكل أبعادها القانونية والسياسية والفلسفية. فالضبابية التي تعيشها البلاد تتطلب انتخابات حقيقية وليست شكلية أو روتينية. من جهة أخرى يلقي الوضع المالي الصعب بثقله وسط مخاوف من عزوف كبير لدى شرائح كبيرة. فالاستحقاقات الانتخابية السابقة، البرلمانية والمحلية لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها الـ 13 في المئة، فهل سيتكرر الأمر مع الانتخابات الرئاسية؟
أن فلسفة الانتخابات تقوم على تأكيد شرعية الحاكم من خلال رأي الناخبين، إضافة إلى إجراء تغيير يتلاءم مع برامج المنافسين التي يتقدمون بها للمقترعين. واليوم المنافسة الانتخابية في السباق الراهن أشبه بصراع متوتر، فكل من يترشح بات يعتبر اليوم بشكل أو بآخر من قبل أنصار الرئيس، مشروع انقلاب سياسي على الحكم وليس منافسا يتمتع بحقوقه التي يكفلها له الدستور التونسي ومبادئ حقوق الإنسان العالمية وأهمها الحق في الترشح والتصويت. فأي انتخابات تجري وفق هذا السياق فإنه لا يمكن التطلع منها إلى النتائج المرجوة أي ايصال صوت المواطن بطريقة سلمية مدنية من خلال صندوق الاقتراع وفق قاعدة الديمقراطية التي لا تتحقق إلا بالتنافس الحر.
وشدد الباحث السياسي سفيان التلمودي لـ«القدس العربي» على ضرورة أن تستند العملية الانتخابية برمتها على معايير النزاهة والشفافية خاصة فيما يتعلق بالقوانين الانتخابية واستقلال القضاء وحيادية الحكومة لمعرفة ميول الناخبين وأصواتهم التي تترجم إرادتهم ورؤيتهم لتونس الغد. ولعل الإشكال الأهم لدى محدثنا هو العزوف الذي شهدته الانتخابات السابقة المحلية والبرلمانية.
ويتابع محدثنا قائلا: «اليوم هذا الجو المشحون ستكون له تأثيرات سلبية على سير الانتخابات ما يعمق المشكلات، والتحدي الأهم هو الالتزام بالآليات القانونية. فالانتخابات في الوقت الراهن، حسب قوله، هي أكبر الاستحقاقات الهامة وهي مفصلية في تاريخ البلاد فيما يتعلق بشكل الحكم القادم وأية تحولات ترتبط به.
وقال إن الانتخابات حسب المادة 21 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في العام 1948 هي تعبير عن «إرادة الشعب وهي أساس سلطة الحاكم ويتوجّب أن تتجلّى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة ودورية. والانتخابات النزيهة تتأكد من خلال الحق في المشاركة، والحق في الترشح دون تمييز والحق في التصويت والتنظم والتعبير».
في المقابل يرى البعض انه لا يوجد مناخ ديمقراطي حقيقي اليوم يراعي حرية الناخب العادي مع تأكيد احترام التعددية السياسية. فاليوم يقبع عدد كبير من رموز المعارضة في السجون بتهمتي التآمر على أمن الدولة والفساد، وسط اتهامات للسلطة السياسية بممارسة ضغوط على القضاء لتعقب منافسي الرئيس الحالي قيس سعيد في الانتخابات. وهناك مرشحون في السجون مثل عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري. كما أودعت السلطات القضائية المرشح الرئاسي رئيس «الاتحاد الجمهوري الشعبي» لطفي المرايحي السجن في وقت سابق هذا الشهر، للتحقيق في قضايا فساد مالي بعد أن كان أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية.
ورغم أن الرئيس قيس سعيد لم يعلن ترشحه رسميا للانتخابات لكنه حسب معارضيه قد انطلق مبكرا في حملته الانتخابية من خلال عديد القرارات الاجتماعية التي تمسّ المواطن العادي. ويقول سعيد إنه يريد تصحيح مسار ثورة 2011 فيما تتهمه المعارضة بتقويض أسس الديمقراطية.
المعايير الدولية
يرى الناشط الحقوقي صفوان بن جمعة في حديثه لـ«القدس العربي» أن الاعتقالات التي تستهدف بعض من أعلنوا عن ترشحهم لرئاسة الجمهورية لا تبشر بالخير وتبعث على الخشية من عدم حصول انتخابات تتوفر فيها المعايير الدولية للانتخابات الحرة والنزيهة. ويعتبر الناشط الحقوقي التونسي أن هناك من تم اعتقاله بسبب قضايا منشورة أمام القضاء سابقة لترشحه، لكن ملفه كان يسير ببطء شديد، وفجأة عندما اقترب موعد الانتخابات تم التسريع في الإجراءات وتم استدعاؤه للمثول أمام القضاء.
ويضيف محدثنا قائلا: «الجو العام خانق فعلا في الوقت الراهن وهناك عملية استهداف للحريات وللحقوق ومن ذلك الحق في الترشح بالنسبة إلى البعض، ولا بد من تدارك الأمر في هذه الأسابيع القليلة قبل فوات الأوان. لا نريد أن نتحدث عن انتكاسة ديمقراطية بعد أن قطعت تونس أشواطا في هذا المجال بفضل تضحيات جرحى وشهداء الثورة وأصوات الأحرار من الحقوقيين والإعلاميين وغيرهم.
ولعل السؤال الذي يطرح هل تستطيع تونس اليوم في ظل هذه الظروف أن تنظم انتخابات حرة وفق المعايير الدولية يعبر فيها الشعب عن إرادته بكل حرية ويتم فيها ضمان حرية الرأي والتعبير وحرية الاعتقاد والفكر وحرية التجمع السلمي وتراقبها سلطة قضائية مستقلة؟ هل نستطيع في ظل هذا الجو الخانق تنظيم انتخابات نزيهة بالاقتراع العام والمباشر والسري يحترم مبدأ المساواة وتتوفر فيه الضمانات القانونية والتقنية.
وهل أن الإدارة التي ستشرف على هذه الانتخابات وتحفظ أمنها ستلتزم الحياد وتقف على مسافة واحدة من الجميع وتضمن سلامة الناخبين وحرية تنقلهم وتتيح للمراقبين ممارسة عملهم الرقابي في أفضل الظروف؟ وهل أن فرز الأصوات والإعلان عن النتائج يمكن أن يتم بشكل سليم ونزيه مع ضمان الحق في الطعن في النتائج أمام قضاء وضمان الوصول إلى وسائل الإعلام؟ هي أسئلة تطرح بشدة اليوم وهناك خشية حقيقية من عدم توفر كل هذه الضمانات في ظل هذا المناخ السياسي الذي لا يبشر بخير.
ويرى محدثنا أن المنظمات الوطنية الكبرى وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل يجب أن تلعب دورها التاريخي في ضمان حصول انتخابات حرة ونزيهة وفق المعايير الدولية وهي التي لعبت أدوراها كما يجب في مراحل مختلفة من تاريخ البلاد وضغطت باتجاه تكريس الحقوق والحريات. ويؤكد بن جمعة على أن الغالبية من التونسيين همهم معيشي بالأساس ومنهم من لم تعد له اهتمامات سياسية بالمرة بعد الفشل الذريع الذي عرفته البلاد في السنوات الماضية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، إلا أن حماية الديمقراطية هي اليوم واجب منوط بعهدة كل تونسي ولا يجب أن تذهب التضحيات السابقة سدى ويعود البلد إلى المربع الأول.
خشية من عدم احترام القواعد الديمقراطية
أثار التاريخ الذي تم تحديده لإجراء الانتخابات الرئاسية وهو يوم السادس من تشرين الأول/اكتوبر جدلا واسعا، فاعتبر البعض أن رئيس الجمهورية الذي لديه عشق لربط الأحداث والاستحقاقات الآنية بالتاريخ والأحداث الهامة كان من الأجدى لو تم تنظيم هذه الانتخابات يوم عيد وطني تونس وهو يوم عيد الجلاء الذي يوافق يوم 15 تشرين الأول/اكتوبر من كل عام. فجلاء آخر جندي فرنسي عن التراب التونسي لم يحصل إلا بعد خاضت تونس المستقلة حربا ضد الجيوش الفرنسية التي أرادت الاحتفاظ بمدينة بنزرت الاستراتجية المطلة على مضيق صقلية وبقواعدها العسكرية وسالت دماء التونسيين في تلك الحرب التي تلتها مفاوضات عسيرة انتهت بتحرير مدينة بنزرت وعودتها إلى السيادة التونسية.
بالمقابل يرى آخرون أن ربط الحدث بيوم 6 أكتوبر فيه أيضا رمزية تتمثل في التأكيد على انتماء تونس إلى عالمها العربي حيث خاضت في ذلك التاريخ من سنة 1973 حربها ضد الكيان الصهيوني التي استعادت من خلالها سيناء. كما أن هذا التاريخ يرمز إلى الليلة التي سبقت تنفيذ عملية 7 أكتوبر التي قامت بها المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الغاصب وأعادت من خلالها القضية الفلسطينية إلى الواجهة وأوقفت قطار التطبيع الذي كان يسير بالسرعة القصوى.
ويرى فريق ثالث أن التواريخ والرمزيات غير مهمة واعتبر أن هذا النوع من الجدل عقيم ولا فائدة منه وأن العبرة هي بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة يفوز فيها الأجدر بدون حصول تزوير أو خروقات. فهناك خشية حقيقية من عدم احترام قواعد اللعبة في ظل ما تتم معاينته على المسرح السياسي التونسي من تشكيات تتعلق بحصول اعتداءات على الحقوق والحريات من قبل السلطة.
ويذهب هؤلاء إلى اعتبار أن رئيس الجمهورية بإعلانه عن موعد الانتخابات قبل ثلاثة أشهر فقط من إجرائها، قد سلط ضغطا زمنيا على المترشحين الآخرين، ويعتبرون أيضا أن الرئيس قام بتأخير الإعلان عن موعد الانتخابات ليُبقي منافسيه في حالة عجز يحول دون إعدادهم الجيد لهذا الاستحقاق السياسي. واعتبر هؤلاء كذلك أن الرئيس قيس سعيد قام بذلك الإعلان المتأخر لأنه لم يكن قادرا على تأجيل موعد الانتخابات لأن ذلك سيؤلب عليه الرأي العام في الداخل والخارج.
ورأى البعض أنه من غير المقبول أن لا تعلن الهيئة المستقلة للانتخابات عن موعد الانتخابات الرئاسية وتنتظر مرشحا وهو رئيس الجمهورية الحالي ليعلن هو عن هذا الموعد. ولعل ذلك دليل على أن الهيئة تتلقى أوامرها من أحد المرشحين وهو ساكن قرطاج الحالي وهو ما يمس من مبدأ المساواة الذي يفترض أن جميع المترشحين متساوون في الحظوظ ولا يسمح لأحدهم بتحديد الموعد الذي يناسبه. ولعل ما يمس من مبدأ المساواة أيضا، هذه التضييقات التي لحقت بعض المترشحين لهذا الاستحقاق السياسي الهام من قبل السلطة الحاكمة وهو ما رأى فيه البعض استغلالا لأجهزة الدولة من قبل مرشح بعينه.
تعليقات الزوار
لا تعليقات