حتى استيأس المعارضون و ظنّوا أنّهم كُذّبوا !
حين بلغت القلوب الحناجر و بلغ السيل الزُّبى و ضاقت البلاد بما رحُبت و بلغ الظلم مداه و عمّ التشاؤم و انحسر الأمل و استوطن اليأس و الخوف و انتشر الطّمع و خانت النّخب شعبها و استسلم القضاة و استقال المحامون و جفّت أقلام الكتّاب و الشّعراء و انكفأ الفنّانون و خرس أساتذة الجامعات و رخّص الأئمة منبر رسول الله و جبُن الصحفيون و ساد الصمت قاعات التحرير و غصّت قوارب الموت بالهاربين و غرق الشباب في سراب المهلوسات و المخدرات و تصامَمَ كبار القوم و أعيانه عن صيحات المساكين و لزموا دفء بيوتهم و خرس من كان بالأمس يتعنتر علينا بملاحم شلعلع و الونشريس و خيّم على أرض الشهداء جوٌّ من القنوط و الكسل و كثُر الانتحار و لم يجد المظلومون من نصير و لا مُجير حتى اكتفوا بالدعاء و بحّت أصوات النشطاء و لم تجد صدى لكلماتها و تواطأ المجتمع الدولي و غضّ طرفه عن جرائم الطاغية حتى آمن المستعمرون الجدد أنهم ملكوا مقادير هذا الشعب و أنه قد أسلمهم رقابه ينحرها أنّى يشاء بما يشاء، حتى جمع ما تبقى من إباءٍ شتاته و لملم المستضعفون قواهم ليرسلوا في الأفق آخر صيحاتهم الداعية للخروج إلى الثورة و التّمرد و التحدي و المقاومة في الشارع دون غيره و أن لا رجوع إلى الهدوء حتى نمنع الإنهيار الوشيك الأكيد فكان أن استجاب الشعب و انفجرت أبواب الجزائريين بسيل منهمر لم تشهد له الشعوب نظيرا، خرج الجزائريون حتى رضّعهم و حتى أجنّتهم في بطون الحوامل شهدوا أعظم ثورة سلمية رائعة ليولدوا بعدها أحرارا غير مستعمرين.
و انبهر العالم..
نقلت أقمار السماء لشعوب العالم صوَرا قشيبة مبهرة عن شعب وسَمهُ خصومه بأبشع ما ينعت به الآدمي من عنف و تعصب و جهل و عنجهية و تعطّش للدّماء و القتل و المجازر و الثأر و الشعبوية و روح الانتقام. كأنّ العالم قد استيقظ على شعب غريب يسكن هذه الأرض، يبتسم، يهتف،يتضامن ، يتفهّم ، يسامح، يهدي الورود، ينظف الساحات، يغيث المريض، يحمي المرأة، يسقي الماء و يقدم الطعام، نساء تزغرد من الشرفات و أخريات يلقين قناني الخل لمقاومة دخان القنابل. شباب لا يتحرّش، لا يظلم لا يخرّب لا يكسر لا يحرق لا يعتدي على الشرطة، لكنه لا يتراجع و لا يخشى خطوط الشرطة بل يقتحمها و يفرّقها و يسير صارخا '' خاوا خاوا'' ، حراكاً دوّخ الطاغية و عبيده و انتبهت له دوائر الشرق و الغرب حتى استنفروا قواهم و أقلامهم و مراكز دراستهم متأهبين لما قد ينجب هذا الحراك من مواليد و ما قد يغيّر من خرائط و ما سيدمّره مما بنى الطاغية من مؤسسات فساد و خراب.
و سيق الذين انتفضوا إلى المحاكم زُمرا..
خضع الجيش لإرادة الشعب و خضع الطاغية لإرادة الجيش و جيء به "بجلّابته المرّوكية '' ليلاً ذليلا صاغراً رخيصاً مُهانا يطلب الغفران من الشعب و ينسحب و سقط الإستعمار الثاني و زُجّ ببعض ركائزه السياسية و المالية و الإعلامية في زنازين السّجون و غياهب الأقبية و انقلب الحامي على المظلوم و ساوى بينه وبين جلّاديه و ساقه ظلما و حيفا إلى نفس سجون مستعمريه و صادر ثورته و تنكّر لدموعه و تعامى عن حقوقه في حكم نفسه بنفسه و تقرير مصيره و تباكم الجبناء عن الصدع بكلمة الحق في وجه المستعمر الثالث عام سعيد.
بقلم الاستاذ و الاعلامي عبد الوكيل بلام
تعليقات الزوار
لا تعليقات