لم يكن في وسع القمة العربية أن تُعطي نتائج أفضل مما أعطت، لسببين، الأول كامن فيها، ويتعلق بمحدودية ميثاقها وبـ»تقاليد» العمل العربي المشترك، الذي يسير دوما على خطى الضعفاء، من أجل تحصيل الإجماع. أما السبب الثاني فيخص السياق العام للقمة الحادية والثلاثين، حيث يتسم المشهد السياسي بالصراع بين محورين الأول مصري إماراتي مغربي، والثاني قطري جزائري. ورسم حضور من حضر من الزعماء اجتماعات القمة، وتغُيبُ من غاب عنها، صورة واضحة للمحورين المتنابذين، خاصة أن مُبررات الغياب واهية.
مع ذلك كانت القمة موضوعة تحت أضواء كاشفة من الأمريكيين والأوروبيين من خلال «الكولسة» إذ دأبت الولايات المتحدة وعدد من البلدان الأوروبية على إرسال دبلوماسيين لاستطلاع خلفيات المواقف، أثناء القمم العربية، بما فيها مواقف الوفد الليبي في القمة الأخيرة، الذي قاده محمد المنفي. وفي هذا الإطار أجرت القائمة بأعمال مساعد وزير الخارجية الأمريكي يائيل لامبرت سلسلة لقاءات ركزتها على ملفات القمة، وأبرزها الملف الفلسطيني والملف الليبي. وكررت الموفدة الأمريكية إلى القمة موقف واشنطن المُتمثل برفض الحل العسكري ودعم المسار السياسي، «لإجراء انتخابات وطنية على قاعدة دستورية وقوانين انتخابية عادلة ونزيهة» على ما قالت.
والملاحظ أن اللاعبين الأساسيين في رقعة الشطرنج الليبية عبد الحميد الدبيبة وفتحي باشاغا ليسا في أوج قوتهما هذه الأيام، إذ أن الأول ما زال يتجاهل ضرورة إجراء الانتخابات، بُغية تمديد بقائه في السلطة، بعنوان استكمال المرحلة الانتقالية الثالثة. أما الثاني فعليه أن يُواجه تآكل شعبيته، حتى في مدينته مصراتة، لأنه لم يُنجز ما وعد به، فضلا عن عجزه على الاستقرار في العاصمة، وعن تحصيل اعترافات به رئيسا للحكومة المنبثقة من مجلس النواب. ومن هذه الزاوية يمكن القول إن القمة العربية لم تُعط شيئا للزعيمين المتنافسين، فحتى الاقرار بشرعية هذه الحكومة أو تلك، أتى غامضا بعد ترؤس محمد المنفي الوفد الرسمي، مثلما يقتضي البروتوكول.
أكثر من ذلك، تمرُ حكومة الدبيبة بفترة دقيقة، وسط تواتر الحديث عن الفساد، وهي حملة قادت عدة شخصيات إلى السجن، بأمر من النائب العام الصديق الصور. ومن بين هؤلاء تسعة مدراء مصارف والوزير الأسبق للشؤون الخارجية محمد الطاهر سيالة. ويمكن القول أيضا إن التقارير الصادرة أخيرا عن ديوان المحاسبة، والتي شملت اتهام رئيس حكومة الوحدة بالضلوع في تبديد المال العام، ساهمت في إضعافه وتقليص دائرة الداعمين لحكومته في الداخل والخارج.
وشملت التحقيقات وقائع فساد في قطاعات حكومية مختلفة، إلا أن المسؤولين الذين تم إيقافهم، بسبب الاشتباه بضلوعهم في تلك الوقائع، لم يلبثوا أن أطلقوا، وعاد بعضهم إلى مراكزهم السابقة، ما يستدعي إلقاء الضوء على هذا الملف. وأورد ديوان المحاسبة في تقريره السنوي وقائع «إهدار المال العام» في عدة قطاعات، في ظل تصاعد كبير في الإنفاق الحكومي، مع عدم التزام جهات إدارية بتوجيهات ديوان المحاسبة، بخصوص التعاقدات وأوجه الصرف.
وجاء تقرير صادر عن هيئة الرقابة الإدارية مؤخرا متوافقا مع الملاحظات الواردة من الديوان، ما أثار تساؤلات لدى الرأي العام عن مصير تلك الملفات، فيما لوحظ أن الدبيبة تعاطى مع التقارير الصادرة عن جهات رسمية، باحتقار وازدراء. بالمقابل تفاعل الرأي العام في كافة ربوع ليبيا بغضب مع التهاون في مكافحة الفساد، بالرغم من أن عناوينه باتت معلومة للجميع. ويتوقع خبراء في علم الاجتماع أن موضوع الفساد سيكون أحد محركات الشارع الليبي في الفترة المقبلة، خصوصا وسط الصعوبات التي تمرُ بها الأسر، جراء ارتفاع الأسعار وندرة المواد الاستهلاكية والاضطراب في توفير الماء والكهرباء.
في مقابل القضايا الحياتية التي تُؤرق المواطن الليبي، يُركز الموفد الأممي الخاص عبد الله باثيلي على الملف الأمني، انطلاقا من قناعته بأن المسار السياسي في مأزق، وأن سببه هو المأزق الأمني. وعلى هذا الأساس يرى باثيلي أن هناك مُتغيرين يسترعيان الاهتمام في الوضع الليبي، أولهما ما سماه «التحول في ميزان القوى بالعاصمة»، في إشارة إلى السيطرة المطلقة للقوات المؤيدة لحكومة الوحدة على طرابلس، وانسحاب القوات الموالية لباشاغا منها. أما المُتغير الثاني فيتمثل، بحسب باثيلي، في عمليات التجنيد الواسعة، الجارية حاليا من دون إعطاء تفاصيل عنها. لذا نرى الموفد الأممي يتمسك بتنشيط اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 من أجل تنفيذ المهام الموكولة إليها، ولا سيما تنظيم حيازة السلاح، من أجل وضعه تحت السيطرة الكاملة للدولة. وتأكيدا لحرصه على تنشيط هذا المسار الأمني، حضر باثيلي بنفسه الإجتماع الأخير للجنة العسكرية المشتركة في سرت لكن هذه العملية ستكون صعبة ومعقدة، لأن الأجسام المسلحة، التي تستخدمها جميع الأطراف، لن تخضع للإجراءات الجديدة، ولن تقبل بوضع أسلحتها تحت السيطرة الحصرية للدولة، فضلا عن معارضة اللواء حفتر أي مسار لتجميع السلاح. لا بل لوحظ أن الأخير أشرف، في السابع من أيلول/سبتمبر الماضي، على استعراض عسكري للقوات الموالية له، في رسالة موجهة للداخل والخارج (أساسا تركيا) بُغية التدليل على أنه لم يفقد جميع أوراقه. أكثر من ذلك شمل الاستعراض إظهار طائرات ميغ 29 الروسية المتطورة لدى جيش حفتر. لذا سيُهيمن شبح حفتر على مسار التصديق على القاعدة الدستورية، إذ أن الموقف السائد في مجلس النواب بشأن شروط الترشُح، يختلف عنه في مجلس الدولة. وعليه لا ينبغي الإفراط في التفاؤل في الوقت الراهن، إلى أن يتضح مصير القاعدة الدستورية المُقترحة. ويعتبر استكمال مجلس الدولة (غرفة ثانية) التصويت على القاعدة الدستورية خطوة مهمة نحو الانتخابات، بعدما أحالها المجلس على اللجنة المختصة، لصياغتها بشكل نهائي. ويقضي المشروع شبه المكتمل بألا يحمل المترشح للرئاسة جنسية دولة أخرى، وألا يترشح العسكريون إلا بعد استقالتهم بسنة. وهذان شرطان يُقصيان اللواء المتقاعد خليفة حفتر من المشاركة في أي انتخابات مقبلة، بوصفه حاملا للجنسية الأمريكية، وأيضا بصفته عسكريا غير مستقيل.
جسور تواصل مع الدوحة
وأظهر رئيس مجلس النواب عقيلة صالح في الفترة الأخيرة، تباعدا عن مواقف حفتر، لاسيما بعد زيارة عقيلة الأولى إلى قطر، وإصداره، قرارا بعد عودته من الدوحة، بتشكيل لجنة من أعضاء البرلمان «لمد جسور التواصل مع مجلس الشورى القطري». ويُفترض أن يستكمل مجلس النواب مناقشة تقرير لجنة اختيار أعضاء المناصب السيادية، إضافة لمناقشة آلية توحيد السلطة التنفيذية. وكان رئيسا مجلس النواب والأعلى للدولة، توصلا في تشرين الأول/اكتوبر الماضي إلى تفاهمات في مدينة بوزنيقة المغربية، بشأن القاعدة الدستورية. وشملت المفاهمات أيضا الاتفاق على تسمية شاغلي المناصب السيادية، وتشكيل سلطة تنفيذية موحدة، في خطوة أشاعت أجواء من التفاؤل في حينها، لكونها تُعبد الطريق نحو إجراء الانتخابات. بيد أن التفاؤل مشوبٌ بالحذر، خاصة في العاصمة طرابلس، للمعاناة التي تكبدتها، مع مدن أخرى، جراء حربي 2014 و2019 بين قوات اللواء حفتر ومعارضيه. ولم تنته المعاناة مع توقف هجوم حفتر على طرابلس، بل استمرت الانتهاكات والاعتداءات التي تستهدف حقوقيين وناشطات اجتماعيات وسياسيات ومثقفين وإعلاميين وأكاديميين.
وأوردت تقارير عدة صادرة عن منظمات دولية واقليمية أن مجموعات مسلحة وأخرى شبه عسكرية تابعة للدولة في ليبيا، تحتجز احتجازا تعسفيا الآلاف من الليبيين والأجانب لفترات طويلة، مع عزلهم عن العالم الخارجي. ومع اعتماد آلية المراجعة الدورية بالأمم المتحدة، باتت السلطات الليبية مُطالبة باتخاذ إجراءات محددة، إذا ما كانت ترغب بالتدليل على حسن النوايا وتوافر الارادة السياسية الحقيقية للاصلاح والتغيير، بما يعني الامتثال للتعهدات الدولية والالتزامات السياسية إزاء الشعب الليبي، في مجال حقوق الإنسان.
وقد استهدفت الجماعات المسلحة، على مدى أربع سنوات، وبشكل منهجي، نحو247 صحافيًا وإعلاميًا، وأكثر من مئة مدافع عن حقوق الإنسان، بالإضافة إلى تسجيل اعتداءات مسلحة على منظمات المجتمع المدني وأعضائها، لا سيما أثناء تنفيذ فعالياتها. وأبرزت التقارير أيضا أن الجماعات المسلحة استهدفت النشطاء الحقوقيين في المطارات ونقاط التفتيش الأمنية، واستخدمت التعذيب لانتزاع معلومات حول أنشطتهم وانتماءاتهم السياسية. كما يُستخدم القتل خارج نطاق القانون ضد المدنيين أيضاً، وخاصة المعنيين بتغطية الفظائع والجرائم التي يرتكبها المقاتلون. ففي 19 كانون الثاني/يناير 2019 قُتل المصور الصحفي محمد بن خليفة أثناء تغطيته للمناوشات المسلحة بين القوات التي تحمي طرابلس واللواء السابع. كما عُثر على جثة المصور موسى عبد الكريم في مكان عام في سبها (جنوب) بعد إطلاق النار عليه، بعد مُضي أسبوع على نشر صحيفته تقريرأ حول عمليات الاختطاف والسرقة المسلحة وتزايد الجريمة في سبها، عاصمة اقليم فزان. أما ناشطة المجتمع المدني انتصار الحصايري وخالتها فعُثر عليهما مقتولتين في سيارة في طرابلس، على أيدي مجموعة مسلحة.
وأكدت التقارير أن انعدام أي نوع من المساءلة، حال دون اتخاذ خطوات جادة لمحاسبة مرتكبي الاغتيالات وغيرها من الانتهاكات، خلال السنوات الماضية، لذلك لا يوجد مكان أو شخص في ليبيا، مُحصن من القتل خارج نطاق القانون. ولا تُستثنى من ذلك المستشفيات والمدارس والمساجد، التي تتغاضى السلطات الرسمية عنها، بحسب ما جاء في التقارير.
أكثر من ذلك، حالت المجموعات المسلحة والقوات شبه العسكرية، المتحالفة مع السلطتين المتنافستين في بنغازي وطرابلس، دون وصول ضحايا الانتهاكات إلى النظام القضائي الوطني، جراء الهجمات المتتالية، التي استهدفت أعضاء المجتمع القانوني والقضائي، ومكاتب النيابة العامة والمحاكم ووزارة العدل. واستدل واضعو التقارير باختطاف وليد الترهوني، أحد منتسبي وزارة العدل، على أيدي جماعة مسلحة، وقد عُثر على جثته بعد بضعة أيام، أمام الوزارة وعليها آثار تعذيب وجروح.
كما وثقت التقارير الهجمات على المحاكم، من أجل ترهيب القضاة وإجبارهم على إطلاق المحتجزين من دون مقاضاتهم. وبحسب التقارير أيضا تضاعفت حالات الخطف والاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري، خاصة بعد اندلاع معركة طرابلس في أبريل/نيسان 2019 إذ أصبح الصحافيون والنشطاء والسياسيون أكثر عرضة للاختفاء القسري وغيره من الانتهاكات، بتعلة التعاطف مع أحد الطرفين المتصارعين، أو بتهم الخيانة أو العمالة لأجندة دولية. ويمكن هنا ضرب مثل بالمهندس عبد الناصر المقطوف (62 عامًا) الذي خطفته مجموعة مسلحة من مصراتة، مع اثنين من أبناء عمومته شرق طرابلس، واحتجزتهم قوة الردع التابعة لحكومة الوفاق في مكان مجهول، بتهمة دعم القوات الشرقية.
من هنا فإن حكومة الوحدة مطالبة بالاستجابة للاجراءات التي تنادي المنظمات الحقوقية باتباعها لإنصاف الضحايا وتحديد المسؤولين عن الانتهاكات من أجل إحالتهم على القضاء، وإنهاء الافلات من العقاب. ومن دون اتخاذ تلك الإجراءات سيبقى تعهُدُ حكومة الوحدة بصون الحريات كلاما تذروه الرياح.
تعليقات الزوار
لا تعليقات