في يناير من سنة 2021، وخلال أشغال المؤتمر الوزاري المغربي الأمريكي لدعم مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية في الصحراء، والذي حضرته أكثر من 40 دولة، قال وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة موجها كلامه "لبعض الدول الأوروبية"، إن عليها أن "تتحلى بالشجاعة وتخرج من منطقة الراحة"، وهو ما فهم منه سياسيون وإعلاميون إسبان أن الكلام موجه لحكومة بلدهم بشكل مباشر.
وحينها لم يكن أغلب المتابعين لملف الصحراء وللعلاقات المتشنجة بين الرباط ومدريد، يتوقعون أن يأتي يوم تُعلن فيه الحكومة الإسبانية الاشتراكية دعم مقترح الحكم الذاتي المغربي، وهي التي تضم إلى جانب الحزب الحمالي حزبي "بوديموس - نستطيع" و"إثكييردا أونيدا – اليسار الموحد" المحسوبين على أقصى اليسار، والداعمين تقليديا لطرح "تقرير المصير عبر الاستفتاء" الذي تتمسك به جبهة "البوليساريو" الانفصالية.
ليس هذا فحسب، بل إن حتى أكثر المتفائلين بخصوص إمكانية تغيير إسبانيا لموقفها التقليدي، لم يكونوا يتوقعون أن من سيحمل مفاتيح ذلك هما وزير الخارجية الجزائري السابق، صبري بوقدوم، وزعيم جبهة "البوليساريو" إبراهيم غالي، اللذان سيُشكلان مع وزيرة الخارجية الإسبانية السابقة أرانتشا غونزاليس لايا، مثلثا كان له "أثر الفراشة" على تطور الأحداث، ليتمكن المغرب في 10 أشهر من ضمان موقف داعم من إسبانيا لخطة الحكم الذاتي بعد 15 كاملة من الانتظار بعد طرح المبادرة المغربية.
الجزائر والبوليساريو تفتحان الباب
بدأ الأمر كله في مارس من سنة 2021، حين طار بوقدوم إلى إسبانيا محملا بعدة ملفات، من بينها محاولة استصدار موقف إسباني داعم لجبهة "البوليساريو" في محاولة لاستغلال حالة المد والجزر في علاقات هذه الأخيرة مع المغرب، بسبب عدة قضايا من بينها ترسيم الحدود البحرية في سواحل الصحراء المواجهة لجزر الكناري، وملف السيادة على سبتة ومليلية والجزر المتنازع عليها.
ولم يتمكن وزير الخارجية الجزائري حينها من النجاح في هذا المسعى، لكنه استطاع أن يقنع نظيرته الإسبانية، أرانتشا غونزاليس، بأمر آخر كان يُفترض أن يبقى سريا، وأي يكون ثمنه، وفق تقارير للصحف الإسبانية، هو حصول مدريد على الغاز الجزائري بسعر تفضيلي، ويتعلق الأمر بدخول إبراهيم غالي، زعيم جبهة "البوليساريو"، إلى الأراضي الإسباني لتلقي العلاج لما قيل حينها إنها تبعات إصابته بفيروس كورونا، والتي أدت إلى تدهور وضعه الصحي بشكل خطير.
وتم الأمر بالفعل يوم 18 أبريل 2021، حين أعدت الجزائر لغالي جواز سفر دبلوماسي باسم "محمد بن بطوش"، ونقلته على متن طائرة رسمية إلى إسبانيا، والتي حطت بمطار سرقسطة العسكري دون خضوع راكبيها لأي إجراءات أمنية أو جمركية بأوامر اتضح فيما بعد أن مصدرها هو ديوان وزيرة الخارجية، قبل أن يُنقل إلى مستشفى "سان بيدرو" بمدينة لوغرونيو، كل ذلك كان من الفروض أن يبقى بعيدا عن أنظار المغرب، وأيضا عن أنظار القضاء الإسباني لكون اسم زعيم الجبهة الانفصالية ورد في عدة شكايات بخصوص تورطه في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد صحراويين بمخيمات تندوف.
لكن هذه "العملية" التي كان يُفترض أن تبقى سرا إلى الأبد، انكشفت بعد 4 أيام فقط، عندما أكدت أسبوعية "جون أفريك" الفرنسية وجود غالي في إسبانيا "تحت إسم مستعار" بغرض العلاج، وفي محاولة لتدارك الأمر خرجت، اعترفت الحكومة الإسبانية بذلك علنا لأول مرة بتاريخ 23 أبريل 2021، موردا أنه "نُقل إلى إسبانيا لأسباب إنسانية صرفة، وذلك من أجل تلقي الرعاية الصحية".
انطلاق المعركة الدبلوماسية
وعقب ذلك، بدأ المغرب مساره الدبلوماسي الطويل، الذي انطلق فعليا يوم 25 أبريل باستدعاء السفير الإسباني في الرباط من طرف وزارة الخارجية، للتعبير عن غضب المملكة مما جرى والمطالبة بـ"توضيحات" بهذا الخصوص، وفي 4 ماي، قالت وزير خارجية مدريد في ندوة صحفية، إن بلادها قدمت للمغرب "التفسيرات المناسبة" لوجود غالي على أراضيها، وأكدت أن هذا الأخير "موجود على أراضيها لأسباب إنسانية بحتة وسيُغادر فور انتهاء هذه الأسباب".
ولكن الرباط كانت تنظر إلى ما هو أبعد من مغادرة زعيم "البوليساريو" أو حتى مثوله أمام القضاء الذي تم بالفعل بتاريخ فاتح يونيو 2021 أمام المحكمة العليا في مدريد في اليوم نفسه الذي غادر فيه إسبانيا، فالأمر كان يتعلق برغبة في دفع مدريد إلى حسم موقفها من قضية الصحراء عموما، ليبدأ بلعب العديد من الأوراق التي كان بعضها مفاجئا للإسبان لدرجة الصدمة.
ففي 17 ماي، ستجد مدينة سبتة نفسها أمام طوفان من المهاجرين غير النظاميين، الذين اقتحموا حدودها على مدى يومين، دون أن تحرق السلطات المغربية ساكنا من أجل منعهم، لتُعلن المدينة أنها واقعة تحت وطأة "كارثة غير مسبوقة" بعد أن بلغ تعداد من وصلوها حسب تقديرات رسمية إسبانية إلى ما بين 10 آلاف و12 ألف شخص.
معنا أو ضدنا؟
وأمام الغضب الإسباني مما جرى، والذي عبر عنه رئيس الوزراء بيدرو سانشيز ولجوء حكومته إلى الاتحاد الأوروبي لطلب الدعم السياسي، كان أول ربط ضمني بين واقعة سبتة ودخول غالي من طرف المغرب هو ذاك الذي اتضح من خلال تصريحات بوريطة بإذاعة "أوروبا 1" الفرنسية، حين أورد أن "إسبانيا لم تتشاور مع الاتحاد الأوروبي قبل استقبال زعيم البوليساريو، والآن تريد منه تحمل تبعات أزمته مع المغرب"، وأضاف "حسن الجوار ليس طريقا باتجاه واحد".
أما الرسالة الثانية فكانت متزامنة مع الحدث نفسه، ومصدرها كان هو السفيرة المغربية في مدريد، كريمة بن يعيش، التي قالت لوسائل الإعلام الإسبانية "على إسبانيا أن تتقيد بجوهر الشراكة الاستراتيجية التي تربطها بالمغرب.. لقد اختارت مدريد التحالف ضد الرباط حين استقبلت مُجرما وضمنت له الحماية تحت مبررات إنسانية"، قبل أن تحزم حقائبها وترحل إلى المملكة بعد أن تلقت استدعاء من وزارة الخارجية في سياق التصعيد الدبلوماسي.
لكن أوراق الضغط المغربي لم تكن عبر قنوات وزارة الخارجية فقط، بل أيضا من خلال قنوات أخرى، كان أبرزها في شهر يونيو من العام الماضي، حين أبعدت المملكة، ولأول مرة، موانئ الجنوب الإسباني من عملية "مرحبا" الخاصة بعبور الجالية المغربية المقيمة بالخارج، وهو الأمر الذي كان بمثابة ضربة قوية لاقتصاد العديد من المدن الإسبانية التي ظل مسؤولوها والفاعلون الاقتصاديون فيها يدقون ناقوس الخطر بخصوص مستقبلها في حال ما أبقى المغرب على حدوده البحرية مغلقة مع إسبانيا هذه السنة أيضا.
مصالحة ممكنة.. لكن بشروط
وفي يوليوز من سنة 2021، ستقوم إسبانيا بأول خطوة في سبيل إعادة المياه إلى مجاريها، حين أبعد سانشيز، في تعديل حكومي، وزيرة الخارجية أرانتشا غونزاليس عن منصبها، بعدما استدعى سفير مدريس في باريس، خوسي مانويل ألباريس ليخلُفها، هذا الأخير الذي أقر بأن مهمته الأولى ستكون هي إعادة العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، لكنه "الأثر الفوري" الذي كان يتوقعه من خلال مسعاه للقاء ببوريطة، تبدد بسرعة، وبدا أن الرباط لا تُقنعها هذه الخطوة.
وكان أول تجاوب مغربي إيجابي مع دعوات المصالحة الإسبانية، هو ذاك الذي صدر عن الملك محمد السادس في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب في 20 غشت الماضي، حين قال إن المغرب "لا يقبل المس بمصالحه العليا، لكنه يحرص على إقامة علاقات فعالة ومتوازنة خاصة مع دول الجوار، وهو نفس المنطق الذي يحكم توجهنا اليوم في علاقتنا مع جارتنا إسبانيا"، وأضاف "صحيح أن هذه العلاقات مرت في الفترة الأخيرة بأزمة غير مسبوقة هزت بشكل قوي الثقة المتبادلة وطرحت تساؤلات كثيرة حول مسارها، غير أننا اشتغلنا مع الطرف الإسباني بكامل الهدوء والوضوح والمسؤولية".
وجاء في الخطاب الملكي حينها "لم يكن هدفنا الخروج من هذه الأزمة فقط وإنما إعادة النظر في الأسس والمحددات التي تحكم هذه العلاقات"، وتابع "إننا نتطلع بكل صدق وتفاؤل لمواصلة العمل مع الحكومة الإسبانية ورئيسها بيدرو سانشيز من أجل تدشين مرحلة جديدة وغير مسبوقة في العلاقة بين البلدين على أساس الثقة والشفافية والاحترام المتبادل والوفاء بالالتزامات".
سانشيز وسوء الفهم الكبير
واستقبل سانشيز هذه الكلمات بحفاوة، ففي اليوم الموالي، وخلال لقائه بالمفوضة الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في قاعدة "توريخون" الإسبانية في العاصمة مدريد، قال رئيس الوزراء الإسباني إنه يشكر الملك محمد السادس على كلماته، وأضاف "نحن حلفاء وجيران وإخوة، ولهذا أرحب بهذه الكلمات... أنا مقتنع بأنه بإمكاننا بناء علاقات على أسس أكثر صلابة مما كانت عليه، وعلى أساس الثقة والاحترام والتعاون"، وتابع "إسبانيا دائما كانت تعتبر المغرب حليفا استراتيجيا لها ولكل دول الاتحاد الأوروبي".
لكن يبدو أن سانشيز لم يعرف كيف يلتقط إشارات هذا الخطاب جيدا، لأنه سيتضح فيما بعد أن المراد منه لم يكن "رد التحية بمثلها" بل "بأحسن منها"، وهو ما كان يتضح واضحا على مستوى المفاوضات بين دبلوماسيتي البلدين التي أكدها وزير الخارجية الإسباني مرارا، والذي كلما خرج بتصريح متفائل بخصوصها وجد عدم تفاعل من الجانب المغربي، لذلك اعتقدت إسبانيا أن الوقت قد حان لدخول الملك فيليبي السادس على خط الأزمة.
الموقف من الصحراء.. وفقط
وفي يناير الماضي، وخلال استقباله أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين في بلده دون سفيرة المغرب، قال الملك فيليبي إنه يرغب في انتهاء الأزمة بين المغرب وإسبانيا، وأن يقوم الحكومتان المغربية والإسبانية بتحديد معالم علاقتهما بشكل مشتركا تماشيا مع القرن الحادي والعشرين، لأنه يجب عليهما "السير جنبا إلى جنب"، لكن تفاعل المغرب مع هذه الخطوة كان مفاجئا لسانشيز أيضا، فالملك محمد السادس كان يراسل العاهل الإسباني في عدة مباشرة بوصفه "صديقه الكبير"، لكن الدبلوماسية المغربية لا زالت تأبى المرور إلى "الخطوة الموالية" في مفاوضاتها مع نظيرتها الإسبانية.
وتفسير ذلك جاء على لسان رئيس الحكومة المغربي عزيز أخنوش، الذي قال في 19 يناير الماضي خلال لقاء تلفزيوني، أن علاقات المغرب مع أي "من أراد أن يعمل مع المغرب في سياسته الخارجية عليه أن يعرف أمرين سبق للملك محمد السادس أن ذكرهما في خطاباته، وهما الوفاء والطموح، ولو حضر الوفاء فيمكن أن يكون هناك طموح كبير لنسير معا في مشاريع كثيرة وتكتلات مستقبلية"، قبل أن يوجه رسالة بشكل واضح لإسبانيا قائلا: "الوفاء يجب أن يكون أيضا في قضية الصحراء، الدول التي فهمت هذا الأمر تقوم وزارة الخارجية بتسريع العلاقات معها، ومن لم يفهم هذا بعدُ فسيأخذ وقته كي يفهمه في المستقبل".
ويبدو أن إسبانيا فهمت، بعد 10 أشهر من الشد والجذب الدبلوماسي، أن الباب الذي واربته لدخول غالي إلى أراضيها، فتحته، في المقابل، ودون أن تدري، على مصراعيه للمغرب، من أجل دفعها للخروج من "منطقة الراحة"، والإقرار لأول مرة بأن الحل "الجدي والواقعي والمتمتع بالمصداقية" لمشكلة الصحراء التي كانت هي نفسها سببا فيها عند احتلالها، هو مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.
تعليقات الزوار
بدون تعليق
مقال اكثر من رائع شكرا جزيلا لكم
المغرب لم يعد يهتم بالخزعبلات الجزائرية ولم يعد يرغب حتى في سماعها لانها دولة فاشلة يتحكم في امورها مجموعة من العجزة
هذا خبير روسي يكشف سبب دعم إسبانيا للمغرب في قضية الصحراء وإدارة ظهرها للجزائر . ووضع في نفس السياق تحت عنوان "إسبانيا والجزائر اختلفتا من وراء الصحراء"، كتب دانيلا مويسييف، في “نيزافيسيمايا غازيتا”، حول الأسباب التي جعلت مدريد تدعم موقف المغرب بشأن الصراع حول الصحراء، وتغامر بتدهور علاقاتها مع الجزائر. وجاء في المقال: الجزائر تستدعي سفيرها من إسبانيا للتشاور. يأتي ذلك بعد أن صادقت مدريد، الجمعة، على خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء. في السابق، كان الإسبان محايدين حيال مصير مستعمرتهم السابقة، وبخصوص الاعتراف بالانفصال الذي تنادي به الجزائر. العلاقات الجزائرية المغربية التي تدهورت خلال الأشهر الستة الماضية وضعت إسبانيا أمام خيار صعب بين البلدين. وفي النهاية قررت دعم المغرب. وفي هذا الصدد، قال نائب مدير معهد الدراسات الإفريقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ليونيد فيتوني، لـ”نيزافيسيمايا غازيتا”: “حاولت إسبانيا ككل مغادرة المستعمرة السابقة بأكبر قدر ممكن من الحذر.. ولكن دون تحديد وضعها، ولذلك، بقي الصراع عالقا، كما يقال”. واستبعد فيتوني أن يؤثر قرار إسبانيا دعم المغرب في موقف الجزائر بشأن أوكرانيا. فالجزائريون مثل المغاربة يحاولون النأي بأنفسهم عن الصراع في هذا البلد، مع أن دور الغاز الجزائري سيزداد، طبعا، بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي بسبب الأحداث في أوكرانيا. “لكن حتى هذا، على ما يبدو، لم يؤثر في تبني مدريد قرارا براغماتيا، مدفوعا إما باتفاقات ضمنية أو بحقيقة أن موقف البوليساريو لم يعد قويا كما كان من قبل. لدى إسبانيا علاقات مع المغرب أوثق من الجزائر. فالمغرب أقرب جغرافياً، والجزر التي تسيطر عليها إسبانيا تكاد تلامس هذا البلد برا، وتقع على بعد مئات الأمتار من إفريقيا. وتحاول مدريد حل مشكلة الوقود عن طريق زيادة الغاز المسال الأمريكي. فيما الجزائر غير قادرة على زيادة الإمدادات بشكل كبير