في عام 1962 استقلت الجزائر وتوقف تاريخ الاستعمار ليبدأ تاريخ آخر، تاريخ الاستقلال الوطني، الذي يجب أن يفصح عن شرعية نضال وكفاح الجزائريين واستحقاقهم السيادة والسلطة وإدارة الشأن العام. فقد مرت ستون سنة على استقلال الجزائر بلا تاريخ خاص يذكر. فلا نزال نتحدث كثيرا عن تاريخ الاستعمار الفرنسي والثورة التحريرية المجيدة، ونعاند في التذكير بأيامها وويلاتها، ولم نتفطن بعد إلى أننا من فرط ذلك، عجزنا عن كتابة تاريخ الاستقلال، الذي مرّت عليه اليوم ستون سنة، وهي فترة أطول من عمر الاستعمار ذاته، إذا أخذنا في الاعتبار أن عاما من عمر الاستقلال يساوي عشرة أعوام أو أكثر من عمر الاستعمار.
وفي تعبير آخر يفيد المعنى ذاته، أن ما شيَّدناه في عام واحد يفوق ما شيدته فرنسا في الجزائر في أكثر من عشرة أعوام. وكلّما ابتعدنا عن لحظة الاستقلال كانت وتيرة الزمن المعاصر أسرع وأكثر كثافة. وإذا كنّا لم نلتفت إلى حقيقة ضياع تاريخ الاستقلال من ذاكرة الأمة، ومن الوعي المؤسساتي، معنى ذلك أننا ضيعنا البلد عن سبق إصْرار وترصّد.
الذين كتبوا عن لحظة استقلال الجزائر، أكدوا على الوضع الصعب الذي قد يحتاج إلى معجزة، لا يستطيعها التاريخ ذاته، من أجل تجاوز تجاذبات وصراعات احتدمت بين أطراف حاربت الاستعمار، وحققت على أثر ذلك استقلال الجزائر، كما حققت تصفية الاستعمار عن تاريخ فرنسا، فأصل الانطلاقة الصعبة أن الذين صادروا السلطة، وسبّقوا خيار السلاح من دون وجه شرعي، فعلوا ذلك عبر مغامرة خطيرة لا يقدم عليها إلا المجازفون من حملة السلاح، لأن الانطلاقة الشرعية والتاريخية تفرض الإطار الجغرافي المغاربي (شمال افريقيا) كما تفرض استمرار التعاون بين الجزائر المستقلة وفرنسا غير الاستعمارية. ولعلّ حرمان الانطلاقة من هذين الاعتبارين، هو الذي دفع النظام الجزائري إلى مواصلة الحرب على استعمار وهمي، استمر في صنعه وبلورة خطاب الكراهية حوله، امتد إلى مكانة وصورة الدولة الفرنسية ذاتها. إن المسار الذي سلكته القيادة الحاكمة طوال ستين سنة من عمر وليس تاريخ الاستقلال، أكد حقيقة خروج الجزائر عن مجال التاريخ الكبير الذي صارت تكتبه الأمم والدول والشعوب الواعية بمصير العالم كله. فالجزائر أُبْعِدت تماما عن تقديم المثل، ولا يؤخذ بنموذجها ولا توفر إمكانية لغيرها، ولا تساهم في تسوية أوضاع وفض نزاعات، بل توقفت بالكامل في دبلوماسيتها عند درجة الصفر، ودرجة من الوعي السياسي يعدم المعارضة بالكامل ونظام سلطوي لا يتوانى عن مصادرة كل ما يساهم في ظهور بصيص الديمقراطية وأمل المواطنة. خروج الجزائر إلى الهامش، هو الذي جعلها طوال عمر الاستقلال تخرج من التاريخ ولا تسجل تاريخها إلا بمراكمة الأزمات والويلات والحروب والثورات والانتفاضات، حتى أصبح عمر الوضع الاستثنائي أكبر من عمر الوضع العادي، إن وجد أصلا.
الجزائر تعيش بلا بعد مستقبلي، فهي من يوم إلى يوم، تصرف الأموال الطائلة من أجل التخلف، يدفعها دفعا إلى عدم قدرتها على صناعة تاريخها الخاص ولا كتابته.. فلا يزال الإعلام الرسمي يذكرنا بمشاهد ومناظر معالم الزمن الروماني والعهد الفرنسي في صيغته الاستعمارية، كأفضل ما تزخر به وتضاهي به العالم الخارجي. وأهم المعالم التي يظهرها الإعلام الرسمي: المدن الفرنسية، وهران والجزائر العاصمة وقسنطينة، رغم أن هذه المدن سارت عليها أزمنة الاستقلال، وشيدت فيها ما يعادل مئات المدن الاستعمارية، لكن الغلبة تعود دائما إلى العهد الاستعماري وقوته التاريخية في الثبات والوجود، ما يعنى في نهاية المطاف والتحليل إخفاق الاستقلال حيال الاستعمار. عبَّرت الثورة التحريرية (1954-1962) عن صراع بين قوى أهلية وقوى فرنسية، سخّرت فيها ذخيرة القوتين معا، وكان صاحب الفعل فرنسيا، بينما رد الفعل كان أهليا، واستقطبت التاريخين معا والسياقين معا. ومن صلب هذا الصراع العنيف جاء الاستقلال وعهد تصفية الاستعمار على الطرفين معا، فالثورة الجزائرية، على ما نفهم ليست محض إرادة أهلية، لأن الجزائر كتاريخ لبلد تحت الاستعمار الفرنسي، كان يعني أيضا المواطن الفرنسي المقيم في الجزائر، على ما كان يذكر ويذكّر الكاتب ألبير كامو. ناهيك من أن تبادل العنف بين الطرفين شمل كل العتاد والعدة الفرنسية، سواء أكانت في المتروبول أو في المستعمرة. ومن هنا، يجب أن يطرح كل الزخم والكثافة التاريخية التي صنعت تاريخ الاستعمار وأثمرت في نهاية المطاف لحظة التاريخ الكبير. فالتاريخ تاريخان الأول، ويعني لحظة الحدث وبيانه، والثاني يعني الوحدات، الذي اندرجت فيه أحداث ووقائع سجلت كأثر سابق ولاحق يعبر في نهاية المطاف عن حقبة تاريخية لفائدة البلدين. فالتاريخ، كما نريد أن نتعامل معه ونسعى إلى أن ندركه بكامل وعينا، يقتضي من جملة ما يقتضي الفعل السياسي، الكفيل بصيانة الأمة من الاندثار والانهيار. فغياب الفعل السياسي، في أنبل وأجلى معانيه، هو الذي أعدم بالكامل تاريخ الجزائر المسْتَقِلَّة، وأفرغ التاريخ ذاته من مضامينه ومحتوياته، فقد مرّت سنوات من الضياع لم يتراكم فيها أي صرح يذكر ولا ثقافة ولا حضارة ولا مؤسسات الدولة العمومية، كل شيء توقف عند درجة الصفر للإبداع، بل الأخطر من كل ذلك – وهنا هو التاريخ وفعله القوي- عندما ينحاز بالتلقائية والفورية إلى الجهة الأقوى في عهد الاستقلال، على ما نحضر ونشاهد مجرى التاريخ بيننا وبين فرنسا، فقد توسع وعينا بالوطن والوطنية إلى الجزائريين في الشتات والدياسبورا، التي صارت تصنع المجد الجزائري وتحاول من ثم أن تكتب تاريخ الاستقلال بعيدا عن الوطن. فالرياضة والسياسة والثقافة صارت من شأن الجاليات الجزائرية في الخارج، على ما نحضر للفريق الوطني لكرة القدم الذي يصنع أفراح الجزائريين ومجدهم، ويعلو بمكانة الجزائر والجزائريين. ففي عصر التفوق العابر للأوطان، أضحى بالإمكان كتابة تاريخ الاستقلال بعيدا عن الوطن الأم، لأن جزءا من هذه الأوطان لا يزال يختلج في الوجدان والوعي والعقل، ولم يخمد نهائيا، وقد آن الأوان أن يستفيد منه الجميع وليس رجالات الحكم وأتباعهم وعائلاتهم فقط.
عندما نلتفت إلى سجل وقائع وأحداث الجزائر المستقلة، لا نجد ما يمكن أن نستشهد به لنؤكد به هذا التاريخ، لأن محطاته كلها تعاني من الزمن الاستثنائي، أي حقب من حالات حصار الطوارئ والإجراءات الخاصة، التي لا تبرر إطلاقا مفهوم الاستقلال، ولا يمكن إدراجه ضمن مقررات الدرس البيداغوجي، ولا البحث العلمي، فضلا عن أن القيادات التي تولت الحكم لا تستند إلى أي شرعية سياسية لائقة بها، ولا تغطي أي استحقاق جدير بالتسيير والتدبير.
نور الدين ثنيو
تعليقات الزوار
مغربي و افتخر
مقال جميل من السيد نور الدين و هناك بعض الثنايا الموضوعية التي يجب إحترامها بعيدا عن الغوص في الماضي، فعندما يكون حاضرنا مبهم و لا نعرف رأسنا من رجلنا فبطبيعة الحال نرجع إلى ماضينا، أما إذا كانت البلاد في تطور مستمر و المواطن يعيش حياة جميلة فقلما نستحضر الماضي لأننا نعيش الحاضر.
مند امد بعيد لم اقر أ مثل هدا المقال الدى يتحدث عن الجزائر الواقع وليس جزائر الزنادقة واتباعهم - جزائر بومدين هي جزائر اليوم المتغير هو أرقام السنوات فقط . شكرا للكاتب على توضيح أشياء من جزائر فرنسا .وتقبل منا فائق الاحترام وشكرا سلفا-