تشهد الجزائر في الآونة الأخيرة جدلاً واسعاً حول الهوس بظاهرة السحر والشعوذة، سواء عبر بعض البرامج الإعلامية المثيرة للجدل أو من خلال موجة “حملات تنظيف المقابر” التي اجتاحت مختلف ولايات البلاد، مما أثار قلقاً بالغاً وسط النخب الثقافية والدينية وحتى المؤسسات الرسمية.
وفي محاولة لإعادة عقلنة المشهد، أصدرت سلطة ضبط السمعي البصري بياناً شديد اللهجة، اعتبرت فيه أن بعض القنوات التلفزيونية الجزائرية قد انزلقت إلى مستويات خطيرة من الترويج للخرافة والدجل، ضاربة بعرض الحائط القواعد المهنية والضوابط القانونية التي تنظم النشاط الإعلامي في البلاد.
وذكرت الهيئة التي تعنى بمراقبة مضمون ما يبث على القنوات، في بيانها أنها “تسجل بقلق شديد تفشي بعض الممارسات الإعلامية غير المهنية التي تمس بوعي المواطنين وتضرب في الصميم الجهود المبذولة لمواجهة الدجل والخرافة”.
وخصّ البيان بالذكر قنوات “النهار تي في” و”الشروق نيوز” و”الحياة”، مشيراً إلى أنها قدّمت برامج “تروج لمفاهيم غير مثبتة علمياً وخطابات خرافية تستغل معاناة الناس وترمي فقط إلى رفع نسب المشاهدة”.
وشددت سلطة الضبط على أن ما تبثه هذه القنوات يمثل استخفافاً بعقول المواطنين ويُعدّ مخالفة صريحة للقانون المؤطر للسمعي البصري، محذّرة كافة المؤسسات الإعلامية من “مغبة السقوط في هذا المنحى الخطير في ظل غياب أدنى شروط الإعداد الإعلامي الرصين، وهشاشة المؤهلات الأكاديمية لبعض المنشطين الذين يُمنحون سلطة تناول قضايا اجتماعية بالغة الحساسية”.
ولقي تدخل السلطة ترحيباً واسعاً من قبل نشطاء ومتابعين للشأن الإعلامي، حيث وصفه البعض بأنه “ضروري، حتى وإن جاء متأخراً”، مؤكدين أن تحرك الهيئة كان لا بد منه أمام “الانفلات الذي جعل من التلفزيون منصة لبث الخرافات والترويج للشعوذة تحت غطاء البرامج الاجتماعية والدينية”.
ويأتي هذا البيان على خلفية بث مواد إعلامية صادمة، كان أبرزها ظهور بعض الأشخاص على شاشات التلفزيون باعتبارهم “رقاة” أو “متخصصين في السحر”، زعم أحدهم أن فريق مولودية الجزائر خسر في الكأس الإفريقية لأن فريق أورلاندو بايرتس الجنوب إفريقي “استخدم السحر الأسود، وأن جنّاً كان يحرس مرماه”!
آخر ذهب إلى أبعد من ذلك، حين ادعى أنه ناقش “بروفيسور في الطب” وأقنعه بأن كل الاكتشافات العلمية الحديثة في الغرب تعود إلى “استخدام الجن”، وهو ما قبله الطبيب المفترض، حسب زعمه! وقبل سنوات، ظهر أحد الرقاة على القنوات مروجا لما يقول إنه “المصل المرقي” الذي يتتبع الجن والشياطين في مجرى الدم!
ويرى البعض في تعليقاتهم أن هذا الخطاب يعكس تحولاً خطيراً في طريقة استغلال الإعلام لأزمات الناس الروحية والنفسية بحثا عن حصد المشاهدات على مواقع التواصل، عبر تقديم تفسيرات خرافية لأزمات اجتماعية واقتصادية عميقة، في تجاوز صارخ لكل معايير المهنية والموضوعية.
ويتزامن كل ذلك، مع ظهور حالة هوس جماعي في الأيام الأخيرة، بمواضيع السحر في أغلب الولايات، من خلال الحديث على نطاق واسع عن حملات تنظيف المقابر التي تُروّج لاكتشافات مزعومة لأعمال سحر وشعوذة مدفونة داخل القبور.
وانتشرت على صفحات كبرى وحتى صحف، تغطيات لهذه الحملات عبر عرض وفيديوهات لأكوام من الملابس والأكفان والكتب الممزقة والطلاسم وطواقم الأسنان والعظام، وكلها يُعتقد أنها أدوات تُستخدم في أعمال السحر.
وفي واقعة تثبت هذا الرهاب، تداول رواد مواقع التواصل قصة سيدة منقبة في مدينة العلمة شمال شرق الجزائر، كانت تنتظر ابنتها أمام المدرسة وهي تقرأ القرآن الكريم وتترجم بعض كلماته إلى اللغة الفرنسية. فما كان من بعض المارة إلا أن ارتابوا من تصرفها واتهموها بممارسة السحر والشعوذة، دون أن يتأكدوا من حقيقة ما كانت تفعله.
وفي لحظات، تجمّع الناس حولها، وبدأوا بتصويرها، ثم طالب بعضهم بإبلاغ الشرطة، وسط حالة من الهلع. ثم سرعان ما تبين أن السيدة كانت تحاول فقط فهم القرآن بلغتها الثانية فهي مغتربة ولا تجيد العربية، ولم تكن تمارس أي شيء خارج عن الدين أو المنطق.
وأمام هذا المد الذي يختلط فيه الدين بالخرافة، خرج عدد من الكُتّاب والمثقفين ليحذروا من هذا الانزلاق، معتبرين أن ما يحدث هو انعكاس لحالة فشل مجتمعي في فهم الواقع.
وذكر الكاتب والأستاذ الجامعي عمار شريطي أن “ما يحدث اليوم ليس انتفاضة على السحر، بل هروب من مواجهة الذات”، موضحاً أن الإنسان حين يعجز عن تفسير فشله، يفتّش في المقابر عن قفل صدئ أو صورة ممزقة ليرمي عليها كل أسباب تعاسته.
وأضاف: “السحر الحقيقي هو أن نصدق أن رزقنا أو سعادتنا أو مرضنا بيد ساحر يهمس في الظلام”، مشدداً على أن الدين ليس أداة للهروب بل وسيلة للتحرر العقلي. واعتبر أن “من يظن أن السحر مشكلة الجزائر، فقد وقع في السحر ذاته”، ليختم بدعوة إلى “بناء الإنسان الجزائري على أساس من الحرية والعقل والمسؤولية”.
وتحدث المحامي هاشم ساسي، في تحليله عن هذه الظاهرة بوصفها “عودة إلى الكهوف”، قائلاً إن “الغزو الوهابي للعقول لا يقل خطورة عن الغزو الاستعماري للتراب”، وأن الانشغال بنبش القبور بدل بناء مشاريع تكنولوجية هو “تجلي من تجليات التراجع الحضاري”.
وفي خضم كل ذلك، أطلق البعض صرخات، تقول إن الحرب الحقيقية ليست ضد السحرة، بل ضد بث الجهل والتلاعب بعقول الناس، وهي لا تُخاض في المقابر، بل في المدارس والمنابر والشاشات.
تعليقات الزوار
لا تعليقات