يثير ما جاء في تقرير لجنة تحقيق أممية، حول أن إسرائيل ارتكبت أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، ودمّرت بشكل ممنهج منشآت رعاية صحية للنساء خلال الحرب على قطاع غزة، واستخدمت العنف الجنسي كاستراتيجية في الحرب على الفلسطينيين الكثير من القلق بالنسبة للفلسطينيين.
ليس مبعث ذلك الخوف على النساء الفلسطينيات من أن يتعرضن لهذا النوع من الممارسات، في ظل أنها تعتبر لصيقة بالتفكير والإجرام الاستعماري من دولة الاحتلال، حيث هناك تاريخ طويل منذ عام 1948 وحتى اللحظة، إنما من أثر هذه الممارسات على صمود الفلسطيني وبقاءه في وطنه، وعلاقتها بعملية إدارة الإبادة الجماعية التي ترتكب بحق الفلسطينيين منذ حدث النكبة المؤسس وحتى اليوم.
وحسب قصة روتها الباحثة الفلسطينية المتخصصة بالجسد في ظل السياقات الاستعمارية، نور بدر، فإنها سمعت حكاية من أقارب لها مفادها أن الزوج أخبر عائلته (زوجته تحديدا) أنه عندما يتعلق الأمر بالخوف من اغتصابها والاعتداء عليها فإنه في تلك اللحظة لا يمكن أن يبقى صامتا.. بل سيأخذ عائلته ويرحل بعيدا.. بعيدا في سبيل حمايتها.
أبرز ما جاء بالتقرير
واتهم التقرير الأممي الصادر عن لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة، وحمل عنوان: «أكثر مما يمكن أن يتحمله الإنسان»، الجيش الإسرائيلي، باستخدام التعرية العلنية القسرية، والاعتداء الجنسي في إطار «الإجراءات الاعتيادية» لتنفيذ العمليات لمعاقبة الفلسطينيين، خلال فترة الحرب بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وقالت لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلة بما في ذلك القدس الشرقية وإسرائيل إن «السلطات الإسرائيلية دمرت جزئيًا القدرة الإنجابية للفلسطينيين في قطاع غزة بعدة طرق؛ منها فرض إجراءات بهدف منع المواليد. وهو ما يندرج ضمن بنود أعمال الإبادة الجماعية في نظام روما الأساسي ومعاهدة منع الإبادة الجماعية».
وأفاد التقرير الأممي بأن إسرائيل تورطت في اثنين على الأقل من خمسة أفعال تعرفها اتفاقية الأمم المتحدة على أنها إبادة جماعية.
وأشار إلى أن إسرائيل كانت تتسبب عمدًا بظروف حياتية ضد مجموعة من الفلسطينيين بقصد بتدميرها بدنيًا، و«تفرض إجراءات تهدف إلى منع حدوث ولادات ضمن المجموعة».
وجاء في تصريحات رئيسة اللجنة نافي بيلاي، في بيان، أن «هذه الانتهاكات لم تتسبب بإيذاء بدني ونفسي شديد مباشر للنساء والفتيات فحسب، بل أدت كذلك إلى تداعيات طويلة الأمد لا يمكن إصلاحها على الصحة النفسية والإنجابية وفرص الخصوبة للفلسطينيين كمجموعة».
ومما جاء في التقرير أن «الأطباء في غزة اضطروا إلى إجراء عمليات ولادة قيصرية طارئة دون توفر التخدير أو المعدات الطبية الكافية، ما عرض حياة العديد من النساء للخطر».
وأشار التقرير إلى أن هذه الظروف تمثل استهدافًا مباشرًا للصحة الإنجابية للفلسطينيين، في انتهاك صارخ لاتفاقيات القانون الدولي.
وذكرت اللجنة أن تلك الإجراءات، بالإضافة إلى ارتفاع عدد الوفيات بين الأمهات بسبب تقييد الوصول لإمدادات طبية، يصل إلى حدّ جريمة الإبادة، وهي من الجرائم ضد الإنسانية. كما اتهم التقرير القوات الإسرائيلية باستخدام التعرية العلنية القسرية، والاعتداء الجنسي في إطار «الإجراءات الاعتيادية» لتنفيذ العمليات لمعاقبة الفلسطينيين خلال فترة الحرب بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023
وأشار إلى زيادة حادة في حالات العنف الجنسي المرتكب من قبل القوات الإسرائيلية والمستوطنين الإسرائيليين، سواء عبر الإنترنت أو بشكل مباشر داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ووثّق التقرير شهادات متعددة حول تعرض النساء الفلسطينيات في غزة للعنف الجنسي، والتهديدات المباشرة بالإيذاء الجنسي، سواء خلال عمليات الاعتقال أو أثناء التفتيش عند الحواجز العسكرية وعمليات الإجلاء القسري.
وأكدت اللجنة الأممية أن هذه الاعتداءات لم تكن أحداثًا معزولة، بل اتبعت نمطًا يعكس أسلوبا منهجيًا في استخدام العنف الجنسي كوسيلة للترهيب والعقاب الجماعي.
كما تطرّق التحقيق إلى عمليات تصوير وتوثيق أعمال العنف الجنسي ضد الرجال والفتيان خلال عمليات الاعتقال. وخلصت اللجنة إلى أن هذه الانتهاكات تهدف إلى إذلال المعتقلين الفلسطينيين وإرسال رسالة تخويف إلى مجتمعاتهم.
ولفت إلى أن بعض المعتقلين الفلسطينيين أجبروا على نزع ملابسهم بالكامل في سياقات تُقصد بها الإهانة والإذلال.
كما أشار إلى تزايد حالات العنف الجنسي ضد المعتقلين الفلسطينيين داخل مراكز الاحتجاز الإسرائيلية، حيث وثّقت اللجنة حالات تعرض فيها الأسرى إلى التحرش الجنسي، التهديد بالاغتصاب، والتعذيب النفسي باستخدام العنف القائم على النوع الاجتماعي.
وأوصت اللجنة بضرورة فتح تحقيقات دولية مستقلة، ومساءلة المسؤولين عن هذه الجرائم أمام المحاكم الدولية.
ثلاثة محاور
تنظر نور بدر، باحثة فلسطينية، وصاحبة كتاب «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الفلسطينية»، إلى التقرير الأممي من عدة نواحي أولا، العنف الجنسي بالحرب، وثانيا، تدمير مرافق الرعاية الإنجابية، وثالثا، العنف الجنسي في معسكرات الاعتقال.
وتشدد في بداية حديثها مع «القدس العربي» على مسألة مهمة ترتبط بالتفريق بين المصطلحات التي يستخدمها الفلسطينيون في حياتهم اليومية وبين المصطلحات التي تستخدمها الجهات الدولية، فتقول: «نحن لا نستخدم العنف الجنسي بل هو مصطلح يستخدم في الدوائر الحقوقية الدولية، أما النزول إلى مستوى الاستخدام اليومي نجد أننا نستخدم مفهوم الاغتصاب بين الفلسطينيين. وهذا ما يفهمه المواطن البسيط».
وتكمل الباحثة بدر وهو باحثة في الاستعمار في تجسده اليومي وتحديدا في سيوسيولوجيا هيمنة الحكم العسكري على الأجساد الفلسطينية وفي مقاومته: «مفهوم الاغتصاب يجعلنا نفكر كيف ينظر لها الفلسطيني وكيف تتشكل في وعيه؟ ونجد أن جزءا كبيرا منها لا يرتبط بحدث آني، بل يستند على ما حدث في النكبة الفلسطينية عام 1948».
وتجادل بدر في أن حوادث الاغتصاب في فلسطين لم تحدث لاشتهاء جنود الاحتلال لجسد المرأة الفلسطينية، كما أنه لم يكن ممارسة فردية، بل كان ضمن دراسة أنماط التفكير الفلسطينية حيث مقولات «الشرف أهم من الأرض»، أو «العرض أهم من الأرض».
وترى بدر أن الاحتلال قام بدراسة أنماط التفكير الفلسطينية وهي التي نتج عنها سياسات إنتاج الخوف، الذي زرع في قلوب الفلسطينيين وتحديدا الخوف من أن العصابات الصهيونية ستقوم باغتصاب الفلسطينيات وهو ما دفع بالبعض للخروج من مكان سكنه قبل وصول العصابات الصهيونية، وهو أمر امتد للنكسة عام 1967، «لقد نزحت العائلات وكان الخوف من استهداف النساء أحد الأسباب الرئيسية».
وتضيف أن الاحتلال في الحرب الحالية على غزة استخدم ذات الخطاب، «أي الخوف من ان الجنود يريدون اغتصاب النساء الفلسطينيات في غزة، وهنا يمكن القول إن الاغتصاب لم يحدث لاشتهاء الجنود لأجساد الفلسطينيات إنما جزء من إدارة الإبادة الجماعية وهو أمر ليس منفصلا عما مضى، بل هو سياسة وتوجهات مستمرة من النكبة وحتى اليوم».
وكانت الخلاصة بالنسبة للاستعمار هنا أنه: «طالما الشرف قيمة مقدسة، فلتستخدم لدفع الناس للهجرة».
وتتابع بدر المتخصصة في دراسات الجسد: «المسألة الأخرى التي تم رصدها ترتبط بما فعله الجنود في غزة من خلال استعراض الملابس الداخلية للنساء الفلسطينيات، لقد أظهرت فيديوهات الجنود يريدون ملابس النساء الداخلية عندما كانوا يقتحمون منازل الفلسطينيين، وهذه عملية تدخل ضمن ذات التفكير، أي أن الجنود وصلوا للحيز الحميمي والحيز الخاص بالأسرة الفلسطينية، وهنا الأكثر خصوصية للمرأة، وهو جسدها وكل ما يتعلق به (أي الملابس الداخلية)».
المسألة الثانية حسب الباحثة بدر ترتبط بتدمير مرافق الرعاية الصحية المرتبطة بالصحة الإنجابية، وتدمير مختبرات صحية كانت تحتوي أجنة خاصة بعائلات فلسطينية. وهو أمر يمكن فهمه ضمن سياسة تدمير قطاع غزة، وكل ما هو إنساني وبنائي في القطاع، فالعدوان على غزة كان يقوم على فكرة التدمير الكامل لكل المقومات والمجالات، «هنا لم يكن تدمير المراكز الصحية التي كانت تتضمن مستودعات لأطفال أنابيب وأحلام المواطنين بالإنجاب إنما كان الهدف تدمير كل شيء في غزة، فتدمير هذه المرافق كان جزءا من فعل التدمير ذاته».
أما المسألة الثالثة فترتبط بالعنف الجنسي أو الاغتصاب وهو ما تم رصده في معسكرات الاعتقال، وهو ما مارسه الجنود بحق الأسرى، وهو أمر يجعلنا نستحضر بقوة ما كان يقوم به الجنود الأمريكيون في معسكر أبو غريب بالعراق، وغوانتنامو في كوبا، حسب الباحثة نور.
وتكمل: «هنا من المهم النظر إلى ان ممارسات الاغتصاب لم تكن ترتبط فقط بموضوع التعذيب كفعل يقوم به السجان بحق من يرى فيه إرهابي بل المسألة تتعدى ذلك إلى مسألة الانتقام، وهذا مهم، فالهدف ليس سحب معلومات أو اجبار المعتقل على الادلاء باعتراف بل هي عملية انتقامية بحتة، وهنا تعتبر قصة طبيب العظام الفلسطيني المشهور عدنان البرش الذي قتل بعد عملية اغتصاب وحشية وبفعل التعذيب المتواصل».
وتختم: «كانت الرسالة أن الجنود يمكنهم القيام بكل شيء في هذه اللحظة.. كل شيء غير مسموح القيام به يمكننا القيام به.. وهذا ما حصل فعلا، في المنطقة المغلقة في داخل السجون، نفعل كل شيء طالما ليس هناك من يراقب، لا توجد منظمات أو مراقبين أو من يهتم، هنا من المهم أن فعل الانتقام السادي يرافقه أو يتداخل معه فعل التسلية».
وكانت وزيرة شؤون المرأة منى الخليلي، قد أشادت بالتقرير الأممي، واعتبرته مرجعا حقوقيا مهما، إذ يكشف عن استخدام الاحتلال الإسرائيلي للعنف الجنسي والإنجابي بشكل ممنهج ضد الفلسطينيين منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ما يشكل جريمة حرب وخرقا صارخا لكافة المواثيق الدولية المتعلقة بحماية حقوق الإنسان.
وأوضحت الخليلي أن التقرير الأممي أكد بما لا يدع مجالا للشك أن الاحتلال الإسرائيلي يلجأ إلى العنف الجنسي كأسلوب حرب منظم بهدف زعزعة استقرار الفلسطينيين، وترهيبهم، والسيطرة عليهم، في محاولة لطمس هويتهم الوطنية والنيل من صمودهم. كما وثق التقرير ممارسات الاحتلال في تدمير مرافق الرعاية الصحية الجنسية والإنجابية بشكل ممنهج، ما يرقى إلى جرائم إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، وهو ما يدعو إلى تحرك دولي عاجل لمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم وفق القانون الدولي.
وشددت على ما ورد في المادة 233 من التقرير، والتي أكدت أن إسرائيل استخدمت العنف الجنسي كسلاح حرب موجه ضد الفلسطينيين، بهدف إرهابهم وإخضاعهم وكسر إرادتهم. وأشارت إلى أن هذا البند يمثل اعترافا صريحا من جهة أممية مستقلة بأن الاحتلال الإسرائيلي لا يتوانى عن استغلال أجساد الفلسطينيين، لا سيما النساء، كأداة للقهر السياسي والاجتماعي، وهو ما يشكّل انتهاكا جسيما لاتفاقيات جنيف، وخرقا واضحا لكل الأعراف والمواثيق الدولية الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب.
وتعتبر دولة الاحتلال إسرائيل من الدول الموقعة على معاهدة «منع الإبادة الجماعية»، وكانت محكمة العدل الدولية أمرتها في كانون الثاني/يناير 2024 باتخاذ إجراءات لمنع أعمال الإبادة الجماعية خلال الحرب على غزة، لكنها مع ذلك ليست طرفًا في نظام روما الأساسي الذي يمنح المحكمة الجنائية الدولية صلاحية إصدار أحكام في قضايا جنائية فردية تنطوي على إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.
ورفعت جنوب أفريقيا قضية تتهم إسرائيل بالإبادة الجماعية بسبب ما فعلته في قطاع غزة أمام محكمة العدل الدولية. وكانت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرات اعتقال بحق كل من بنيامين نتنياهو (رئيس الحكومة الإسرائيلية)، ويوآف غالانت (وزير الجيش الإسرائيلي السابق)، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
سعيد أبو معلا
تعليقات الزوار
لا تعليقات