أخبار عاجلة

بلدية باريس تعترف بهولوكوست مدينة الأغواط المسكوت عنه بلوحة تذكارية

في سياق يتميز بالتوتر الشديد بين الجزائر وفرنسا، تعتزم بلدية باريس في 4 ديسمبر المقبل، تثبيت لوحة تذكارية في “شارع الأغواط” بالمدينة، في مبادرة رمزية تأتي تخليدا لذكرى ضحايا محرقة الأغواط التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي عام 1852، والتي تعرف عند المختصين بأنها أول هولوكست في التاريخ الاستعماري الحديث.

وينتظر أن تدشن آن هيدالغو عمدة باريس الاشتراكية نائبتها المكلفة بالذاكرة، لورنس باتريس، ورئيس بلدية الدائرة 18 إريك لوجواندر، هذه اللوحة التذكارية في “شارع الأغواط”، الواقع في الدائرة 18 من العاصمة الفرنسية، بمناسبة الذكرى الـ172 للمحرقة التي راح ضحيتها حوالي 3786 شخصًا من أصل 4500 نسمة كانت تقطن بالمدينة، أي ما يعادل ثلثي السكان، في واحدة من أبشع الجرائم التي شهدتها فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر.

ووفق مقترح عمدة باريس، ستتضمن اللوحة التذكارية النص التالي: “في عام 1852، شنّ الجيش الفرنسي هجومًا على مدينة الأغواط الجزائرية، التي انتفض سكانها ضد الغزو الإمبراطوري. وقد أسفرت هذه المجزرة، التي ارتُكبت من أجل المصالح الاستعمارية الفرنسية، عن إبادة ثلثي سكان المدينة، وهي جريمة حرب. هذه التذكرة تُحيي ذكرى سكان الأغواط.”

 

واللافت أن شارع الأواط بالدائرة 18 الفرنسية، ظل يحمل هذا الاسم منذ عام 1864، وقد كان في الأصل تكريمًا للغزو الاستعماري، ضمن تقليد فرنسي قديم لتخليد “انتصارات” الجيش الاستعماري عبر تسمية الشوارع والمعالم.  وعرف قبل ذلك بشارع مازاغران نسبة إلى حصار مازاغران عام 1840، وهي مدينة بالشمال الغربي للجزائر. واليوم، تأتي هذه اللوحة التوضيحية لتغيير محمول هذا الاسم، وتحويله من رمز للغزاة إلى تكريم لذكرى الضحايا، في إطار سياسة مراجعة الذاكرة التي تحاول فرنسا القيام بها اتجاه الجزائر بشكل مجتزأ ومحتشم، وفق المؤرخين الجزائريين.

وكانت آن هيدالغو قد تبنت هذا المشروع استجابةً لنداءات من مؤرخين وناشطين يتقدمهم الكاتب الجزائري لزهاري لبتر، نشروا في فبراير 2023 عريضة في صحيفة “لوموند” الفرنسية، طالبوا فيها بتخليد ذكرى سكان الأغواط الذين سقطوا ضحايا لهذا الاعتداء الدموي. وفي رسالتها التي وجهتها لأعضاء مجلسها البلدي لمطالبتهم بالمصادقة على المشروع، أكدت العمدة قبل أشهر، أن هذا الاعتراف يندرج ضمن واجب الذاكرة، ويُعدّ خطوة نحو تعزيز الصداقة الفرنسية-الجزائرية من خلال مواجهة الحقائق التاريخية المؤلمة.

كما أشارت إلى أن باريس ترغب من خلال هذا العمل الرمزي في تسليط الضوء على إحدى أفظع مراحل الاستعمار الفرنسي، والتي غالبًا ما تم التعتيم عليها في الروايات الرسمية. فاللوحة ستُوثّق ما وصفته الرسالة بأنه “جريمة حرب”، عبر الاعتراف بمعاناة سكان الأغواط الذين فقدوا أرواحهم في تلك المأساة. وفي السياق التاريخي، أبرزت هيدالغو أن هجوم الأغواط كان جزءًا من حملة استعمارية توسعية استهدفت فرض السيطرة الفرنسية على الجزائر، بعد أن واجهت مقاومة شرسة من السكان المحليين. كما أشارت إلى أن المجزرة كانت تهدف إلى قمع “التمرد” (المقاومة)، لكنها تحولت إلى إبادة جماعية بحق سكان المدينة.

وفي اعتقاد عمدة باريس، فإن هذه الخطوة تحمل بُعدًا رمزيًا كبيرًا، حيث تُعبّر عن إرادة سياسية للاعتراف بالجرائم الاستعمارية، في وقت يشهد فيه الجدل حول الذاكرة الاستعمارية تصاعدًا في فرنسا. وأكدت أن مدينة باريس تسعى من خلال هذا التكريم إلى بناء جسور جديدة من التفاهم مع الجزائر، وإلى تعزيز قيم العدالة التاريخية. وأشارت إلى أن الاعتراف بمثل هذه الجرائم يُعدّ خطوة أساسية نحو مصالحة حقيقية بين الشعبين، معتبرة أن هذا العمل يُجسد التزام مدينة باريس بمواجهة ماضيها الاستعماري بشجاعة، وبتقديم العزاء الرمزي لسكان الأغواط وأحفادهم.

ورغم توالي هذه الخطوات الفرنسية الرمزية، إلا أن صداها في الجزائر يبقى ضعيفا جدا إن لم يكن عكسيا في الكثير من الحالات، بالنظر للفارق الكبير بين حجم الجرائم الاستعمارية ومضمون هذه اللفتات التي لا تتعدى الجوانب البروتوكولية، من بضع كلمات وورود وتحميل للمسؤولية لأشخاص وليس للدولة الفرنسية، دون أن تصل إلى مضمون ما يريده الجزائريون من اعتراف كامل بالجرائم الاستعمارية ينتهي بالاعتذار. وما يزيد من تعقيد الأمور، الأزمات المتتالية التي يشهدها محور الجزائر باريس، والتي تزيد من تعقيد ملف الذاكرة.

وفي هذا السياق، قد تكون محرقة الأغواط خير شاهد على التفاوت بين الواقع الإجرامي الاستعماري ومحاولات التجاوز التي يسعى إليها المسؤولون الفرنسيون، عبر مبادراتهم. ووفق المراجع التاريخية، وقعت هذه المأساة بعد حصار دام أكثر من أسبوعين لهذه المدينة التي تعد بوابة الصحراء الجزائرية، حيث اقتحم 6000 جندي فرنسي البلدة التي كانت معروفة بمقاومتها الشديدة، ليس بهدف إخضاع المدينة فحسب، بل ترويع سكان الجنوب الجزائري لإكمال التوسع.

وشهدت العملية استخدام أساليب إبادة مروّعة، من بينها القصف بالغازات الكيميائية. وتشير هنا، تقارير تاريخية إلى أن الجيش الفرنسي استخدم مادة الكلوروفورم لإبادة السكان، حيث أُطلقت قذائف مشبعة بهذه المادة لتسميم من تبقى من المدنيين، وشلّ حركتهم قبل قتلهم. وتعد هذه الحادثة من أوائل الاستخدامات الموثّقة للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، مما يجعل البعض يصفها بـ”أول هولوكوست” في التاريخ الحديث.

وبعد سقوط المدينة، تحوّل الاقتحام إلى مذبحة استمرت لأيام. قُتل أكثر من 3786 شخصًا من أصل 4500، ولم يتم استثناء النساء أو الأطفال. تقارير شهود العيان ووثائق فرنسية كشفت عن مشاهد مروّعة، حيث تم حرق المدنيين أحياءً بعد وضعهم في أكياس من الخيش وإلقائهم في حفر جماعية. كما لجأ الفرنسيون إلى حرق مداخل المغارات التي لجأ إليها السكان، ما أدى إلى مقتل مئات آخرين بالنار والدخان المنبعث منها. ولا تزال الذاكرة الجماعية بالمنطقة، تحتفظ باسم “عام الخالية” الذي أطلقه السكان على ذلك العام، بعدما أفرغت الأغواط من سكانها ولم يبق منها إلا القليل من الناجين.

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات