انطلق رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ورئيس الحكومة المُعينة من مجلس النواب فتحي باشاغا، في سباق شديد على جمع الاعترافات من القوى الإقليمية والدولية بحكومتيهما. وفي أعقاب فشل اجتماعات القاهرة بين وفدين يمثلان الحكومتين، بإشراف رئيس المخابرات المصرية عباس كامل، أخذ الدبيبة وباشاغا عصا الترحال وشرعا يطوفان على العواصم العربية، فاتجه الدبيبة إلى الجزائر، حيث حظي بحفاوة كبيرة من الرئيس عبد المجيد تبون، الذي كان أول زعيم عربي يُجدد دعمه لحكومة الوحدة الليبية، ويُعلن أن الجزائر لا تعترف بسواها.
والجدير بالذكر في هذا الإطار أن الجزائر لم تعترف سابقا بالحكومة الموازية برئاسة عبد الله الثني، وتمسكت بحكومة فائز السراج المعترف بها دوليا. أكثر من ذلك تتهم الأوساط القريبة من اللواء حفتر الجزائر بكونها هي التي شجعت الدبيبة على رفض التخلي عن الحكم، مُستدلة بأنه أعلن عن هذا الموقف غداة زيارته للجزائر يوم 19 مارس الماضي. وقبل ذلك كان تبون قد أكد علنا أن دخول قوات حفتر إلى طرابلس أثناء الحرب التي شنها الأخير على العاصمة، يُعتبر خطا أحمر ويستوجب التدخل.
ويُقابل هذا الموقف إعلانُ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن «من يعتقد أن بوسعه تجاوز خط مدينة سرت (شمال وسط) فهذا الخط بالنسبة لمصر، خطٌ أحمرُ». واعتبرت وسائل إعلام جزائرية مؤخرا أن تطور الخلاف بين الدبيبة وباشاغا هو من نتائج مسعى بعض البلدان العربية، وخاصة مصر، «لإقصاء الجزائر من المساهمة في مسار العودة إلى الأوضاع الطبيعية في ليبيا». وأوضح تبون في معرض حديثه عن المبادرات السلمية، وتحديدا ما راج من أن الجزائريين يعتزمون الدعوة إلى مؤتمر دولي حول ليبيا، أن الجزائر لا ترغب بالانخراط في عملية محكومة بالفشل، وأنها تنتظر ظهور مؤشرات إيجابية، وليست مؤشرات انقسام بين الدول العربية، مثلما هي الحال الآن.
وكانت الجزائر استضافت مؤتمرا لدول جوار ليبيا في اغسطس الماضي بمشاركة وزراء خارجية الدول المؤثرة في الملف الليبي، إلا أن جهودها الدبلوماسية لم تُثمر بسبب تباين المصالح بين أولئك الفرقاء.
ومن الجزائر انتقل الدبيبة إلى الإمارات في زيارة رسمية غير مألوفة، لأنها تُؤشر إلى تغيير في المواقف، بعدما كانت أبو ظبي تدعم علنا اللواء حفتر. وقد لعبت دورا أساسيا في تسليح قواته أثناء «معركة طرابلس» 2019- 2020. بهذا المعنى تكون زيارة الدبيبة للإمارات ضربة دبلوماسية لباشاغا أتت من أهم حلفائه، بالرغم من تأكيد الإماراتيين أنهم سعوا إلى رأب الصدع بين المُتنازعين على رئاسة الحكومة.
مع ذلك لوحظت أخيرا اختراقات غير مألوفة في الملف الليبي، فإلى جانب زيارة الدبيبة إلى الإمارات، التي لم يكن ممكنا تصوُرها غداة تشكيله الحكومة العام الماضي، حقق الأتراك في المعسكر الآخر، اختراقا مهما بزيارة وفد رفيع المستوى، مؤلف من دبلوماسيين ورجال أعمال، إلى بنغازي. وتوصل الجانبان إلى نتائج مهمة، من بينها معاودة فتح القنصلية التركية في بنغازي واستئناف خط الطيران المباشر بين بنغازي واسطنبول، إضافة إلى عودة الشركات التركية للعمل في المنطقة الشرقية.
وفي خط مواز فتح الأتراك قناة اتصال مع باشاغا من خلال اجتماع عُقد أخيرا بين مسؤول تركي لم يُكشف عن هويته وممثلين عن رئيس الحكومة المُعينة من مجلس النواب في 22 مارس الماضي، بقيادة الرجل الثاني السابق في المجلس الرئاسي أحمد معيتيق. يأتي ذلك بينما باتت أنقرة تحظى بمركز قوي في ليبيا، إذ عزز الرئيس رجب طيب اردوغان التعاون الاقتصادي معها، على حساب الشركات التونسية والمصرية، زيادة على الحضور العسكري الإستراتيجي الذي تتمتع به في البلد. ويؤكد خبراء أنه لا يمكن لباشاغا أن يدخل العاصمة والجنود الأتراك ما يزالون في قواعد عسكرية في طرابلس ومصراتة.
بعد أبو ظبي زار الدبيبة تونس، التي مكث فيها قبله باشاغا، مع بعض وزرائه، أسبوعا في انتظار صيغة تُتيح لهم الدخول إلى طرابلس سلما. لكنهم لم يُفلحوا، فاختار باشاغا عقد الاجتماع الأول لحكومته في مدينة سبها لأن قوات الحكومة المركزية لا تسيطر عليها، وإلا لكانت منعته من ذلك، بأمر من رئاسة الحكومة في طرابلس.
عودة «داعش» إلى الجنوب
على خلفية هذا الانقسام داخل النخبة الحاكمة (كان باشاغا وزيرا للداخلية في حكومة فائز السراج) وارتخاء قبضة الدولة، عاودت عناصر تنظيم «داعش» الظهور مجددا في الجنوب الليبي، بعد أربع سنوات من إخراجها من مدينة سرت (وسط) على أيدي قوات «البنيان المرصوص» الآتية من مصراتة. كما تمكنت عدة مجموعات من الميليشيات التشادية والسودانية من الاستفادة من الفراغ الأمني في إقليم فزان (جنوب) لتُوسع انتشارها في المنطقة، على الحدود المشتركة مع كل من تشاد والنيجر والسودان. وقد أطلقت أخيرا هجوما على منطقة غدوة التابعة لسبها، مُحدثة خسائر مادية وبشرية.
وسعيا لاحتواء هذا الوضع وإبعاد عناصر الجماعات من الجنوب، أطلق الجيش الليبي الأسبوع الماضي عملية واسعة في الجنوب، لكن المساحة الشاسعة للحدود على مدى أكثر من ألف كيلومتر، بالإضافة لصعوبة التضاريس الجبلية والصحراوية، تجعلان تلك المهمة عسيرة ومُحاطة بمخاطر عدة.
والأرجح أن الفترة المقبلة لن تشهد تقدما نوعيا في حل الأزمة الدستورية والسياسية في ليبيا، لأن القوى الوحيدة التي تملك أوراق الضغط وتستطيع جمع الفرقاء الليبيين على مائدة الحوار هما أمريكا وأوروبا، وكلاهما مشغول بمضاعفات الحرب في أوكرانيا. وفي هذا الإطار يرى المحلل السياسي الإيطالي ليوناردو بيلودي، أن الحرب الروسية على أوكرانيا، وجّهت أنظار الغرب، في الشهرين الأخيرين، نحو الشمال الشرقي للقارة الأوروبية، مع تناسي أن المشاكل في بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط لم تنتهِ.
وركز بيلودي رصدهُ على ليبيا ومصر وتونس والمغرب والجزائر في شمال أفريقيا، ودول الخليج ولبنان وإسرائيل في الشرق الأوسط، موضحاً أن البعض اتخذ مواقف متباينة في مختلف المنتديات الدولية، بشأن الصراع الأوكراني، في ما يتعلق بالاعتماد على استيراد النفط والغاز والقمح. وحذر من تداعيات الأزمة بقوله إن كل الحكومات في دول شمال أفريقيا، ومنها ليبيا، ودول الشرق الأوسط، تتوخى سياسة الدعم بشكل كبير، وخاصة للحبوب والبنزين. إلا أن ارتفاع معدلات التضخم وزيادة أسعار القمح والمحروقات، يجعلان من الحفاظ على الدعم المالي، الذي اعتاد عليه أفراد الطبقة الفقيرة، يصبح أكثر كلفة للدولة.
واعتبر المحلل الإيطالي في شأن ليبيا، أن وضعها ليس الأفضل، بل هو من باب المفارقات، فليبيا ليس لديها ما يكفي من النفط والغاز لتلبية الطلب الداخلي. وقد خسرت في الأسابيع الأخيرة نحو 70 مليون دولار و400 ألف برميل من الإنتاج يومياً على خلفية إغلاق الموانئ النفطية. وبالرغم من الضغط الأمريكي من خلال إعراب واشنطن عن قلقها من استمرار غلق موانئ النفط، لم تبدُ حتى الآن مؤشرات على احتمال فتح وشيك للحقول المغلقة. وحتى عندما صوت مجلس الأمن أخيرا بالاجماع على تمديد تفويض بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، حتى 31 تموز/يوليو المقبل، تحاشت أمريكا تضمين فقرة في القرار تُحدد اختيار قائد جديد للفريق الأممي في ليبيا. والأرجح أن أمريكا تتعمد المحافظة على الوضع الراهن لأنها مستفيدة من بقاء السفيرة ستيفاني وليامز مستشارة خاصة للأمين العام، كي تكون واشنطن على معرفة كاملة بما يدور في الاجتماعات، وقادرة على التأثير فيها. ولوحظ أن وليامز جالت على القيادات السياسية من الفريقين لإطلاعها على ما دار في اجتماعات «لجنة المسار الدستوري الليبي» وهذه القيادات هي رئيس الحكومة الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ونائبيه ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح. وسبق أن وضع مجلس النواب سقفاً لمفاوضيه في الاجتماعات، بضرورة العودة إليه ثانية بنتائج النقاشات، إذا خرجت بعيداً عن الإطار المحدد لهم. ووضع أعضاء المجلس الأعلى للدولة السقف نفسه لمفاوضيهم.
وأتت محادثات القاهرة تجاوبا مع مقترح المستشارة الأممية، بتشكيل لجنة مشتركة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، للعمل على وضع قاعدة دستورية توافقية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة. وكانت تونس قد احتضنت جلسات تشاورية لأعضاء المجلس الأعلى للدولة برعاية أممية، وفي ظل غياب أعضاء البرلمان. كما أن ما دار في اجتماعات القاهرة لا يمكن البناء عليه أيضا، بسبب تباعد المواقف بين الجانبين. وقد أوصى المجلس الأعلى للدولة، لجنة التوافق على المسار الدستوري التابعة له بتقديم تقرير تفصيلي حول اجتماعات القاهرة والتباينات التي برزت في المواقف.
فالخيار الذي يُفضله الدبيبة على ما يبدو هو الاستعانة بمشروع الدستور الذي أعدته «لجنة الستين» في العام 2017 وهي مؤلفة من عشرين عضوا من أقاليم البلد الثلاثة بالتساوي. أما الخط الذي يميل إليه مجلس النواب والبعثة الأممية بشأن المسار الدستوري، فهو وضع مشروع دستور جديد وعرضه على الاستفتاء العام. والأرجح أن الأوضاع السياسية والأمنية ستزداد توترا وتعفُنا بعد إعلان ممثلي اللواء خليفة حفتر، في لجنة «5+5» تعليق جميع أعمالهم في اللجنة اعتبارا من التاسع من الشهر الماضي. وهاجم المُنسحبون رئيس الحكومة الدبيبة مُحملين إياه مسؤولية الإحجام عن تعيين وزير للدفاع، واحتفاظه بهذه الحقيبة لنفسه، بالاضافة لاتهامه بالتسبب في إيقاف صرف مرتبات القوات الموالية لحفتر أكثر من مرة، وآخرها عدم صرف أربعة أشهر على التوالي حتى الآن (الأربعاء) بحسب ما ورد في البيان. غير أن أحمد المسماري الناطق الرسمي باسم قوات اللواء حفتر، قال إن ديوان المحاسبة أرسل كتابا لمصرف ليبيا المركزي بالموافقة على صرف رواتب عناصر القوات المسلحة، وذلك في اليوم التالي لصدور بيان ممثلي القيادة العامة للجيش في المنطقة الشرقية في لجنة «5+5». ومع استمرار الحرب الأوكرانية تبدو عواصم القرار الغربية غير مُستعجلة للحل السياسي في ليبيا، وقد أرجأت الاهتمام بهذا الملف بالنظر لانشغالها بالصراع في شمال شرق أوروبا، فيما تعجز القوى الإقليمية عن إرجاع قطار الحوار بين الحكومتين إلى سكة الحل السياسي، لأنها تدعم هذا الفريق أو ذاك، ولا تستطيع أن تكون حكما بينهما.
تعليقات الزوار
لا تعليقات