بعد حرب يوم الغفران حنت إسرائيل رأسها بتواضع وأعادت تقييم نفسها. أصيبت الدولة بصدمة وجمعت نفسها وندبت. الوقاحة والتبجح اللذان عقبا اليوم التالي لحرب الأيام الستة اختفيا واختفت معهما عبادة الشخصية العسكرية وعبادة الجيش. بعد مرور أربع سنوات، وقعت إسرائيل على اتفاق السلام الأهم في تاريخها.
لقد بات واضحاً أن المرة هذه ستكون مختلفة؛ فالوقاحة والتبجح وعبادة القوة العسكرية عادت وبقوة. عملياً، لم تختف تقريباً. في الأيام الأولى حيث سيطرت الصدمة والعجز والذعر وحتى التواضع، سرعان ما عادت الوقاحة وكأن إسرائيل لم تتفاجأ ولم يهاجمها جيش حفاة محاصر. جيشها لم ينكشف في حالة فشله، وقوتها العسكرية لم تنكشف مثل عكاز القصب المكسور. إسرائيل غرقت في حالة حزن وقلق كما حدث بعد حرب يوم الغفران، لكن بدون أي إشارة على تغيير عقليتها.
الادعاء بأن الحياة على حد السيف ستقود إسرائيل إلى الضياع، اعتبر كفراً. بناء على ذلك، حرب 7 أكتوبر أسوأ من حيث الأضرار من حرب 6 أكتوبر. بعد الحرب الأولى جاء تصحيح، أما التصحيح فلا يلوح في الأفق هذه المرة.
كان يمكن توقع رد مختلف. في 8 أكتوبر نشرت في “هآرتس” ما كتبته في ظهيرة 7 أكتوبر، قبل الكشف عن كل الأعمال الفظيعة. “وقاحة إسرائيل تقف وراء كل ذلك. تفكيرنا أن كل شيء مسموح لنا بلا معاقبة على ذلك في يوم ما…وأن الاعتقال والقتل والتنكيل والسرقة والتهجير والدفاع عن مستوطني مرتكبي المذابح والحج إلى قبر يوسف وقبر عتنئيل ومذبح يهوشع، وبالطبع إلى الحرم، وإطلاق النار على الأبرياء واقتلاع العيون وتحطيم الوجوه… إسرائيل شاهدت أمس في الجنوب صوراً لم تشاهدها من قبل؛ سيارات فلسطينية عسكرية تجري أعمال الدورية في مدنها، وراكبو الدراجات يدخلون من أبوابها. هذه صور يجب أن تمزق قناع الوقاحة”. الآن بعد مرور أربعة أشهر، تتصرف إسرائيل وكأنها بعد 5 حزيران 1967 وليس بعد 7 أكتوبر 2023.
عاد الخطاب إلى وقاحته. يتبجح الجنرالات في الاستوديوهات بالقول: سنضرب هنا ونحتل هناك، ويحركون القوات من بيروت إلى طهران، بما في ذلك محور فيلادلفيا واليمن. يهتاج الجنود والمستوطنون ويتطاولون في الضفة الغربية. الخطاب الإعلامي يراوح بين تشنج الجيش والاتجار بالمشاعر الوطنية. حرب عبثية تُقدم على ضوء واحد، ضوء الكآبة لإنجازاتها المتخيلة. لا مساء بدون مدح الجيش المبجل. انظروا إلى الفرقة 162 والجيش الحربي اللوائي 401، وكأنه ليس نفس الجيش الذي كان في 7 أكتوبر، وكأن ذلك يقود إسرائيل إلى مكان أفضل.
إلى جانب ذلك، لا صوت لرأي آخر، متشكك، معاكس، بل استخذاء لزج للجيش، وللحرب، ولشعب إسرائيل، وخلود إسرائيل وخلودنا جميعاً، ولخيانة مهنية معظم وسائل الإعلام في إسرائيل حين تنفي من أجل الدعاية، وغيابها المخجل لنقل ما يحدث في قطاع غزة: أنقاضه وقتلاه ومصابوه ومعاقوه… ثم يضاف إلى ذلك غطرسة تسيطر على خطابنا وحياتنا أيضاً.
في مؤتمرهم يبنون المستوطنات في قطاع غزة، وفي جنين يتنكرون بزي الطواقم الطبية في خرق فظ للقانون الدولي على صوت هتافات الجمهور، وفي غزة يدمر الجنود كل شيء وكأنه لا غد، وفي بيروت يشن العالم حملة لوقف مساعدات الأونروا، في لاهاي يحاولون تعويق المحكمة الدولية. لا مكان لحني الرأس، والتواضع، والتفكير الآخر، وتقييم المسار، والاستماع للعالم.
كان يمكن ألا يكون هذا فظيعاً جداً لولا معرفة أنه سيؤدي إلى الكارثة القادمة. مواصلة خداع النفس ومواصلة التصديق أننا سننتصر بالسيف إلى الأبد، وأننا الأكثر صلاحاً والأقوى، أكثر من الجميع، أكثر من العالم كله.
تعليقات الزوار
لا تعليقات