أخبار عاجلة

هل نحن في الجزائر حقيقة نفكر بالفرنسية ونترجم للعربية؟

في برنامج حواري في إحدى القنوات المصرية، وردا على سؤال المذيعة حول استعمال اللغة الفرنسية في الجزائر، أجابت في شبه تأكيد وزيرة الثقافة الجزائرية وفاء شعلال، أن سبب ذلك هو «التعليم خصوصا في المجالات العلمية باللغة الفرنسية» وأضافت: «يعني أننا كثيرا نفكر بالفرنسية ونعبر بالعربية» فهل يتصادم هذا مع مفهوم السيادة والهوية المنبثقة من عمق البعد الحضاري الأمازيغي، العربي والإسلامي. 

اللغة حمالة هوية

هل يمكن أن تُفرغ الذات الوطنية من ثوابتها، إلى درجة أن تضع وعيها جانبا لتتقمص هوية أخرى تبوئها الصدارة، تشتغل انطلاقا من لغتها وأسس تفكيرها وأنماط العيش التابعة لها؟ إن الهوية حمالة ثقافة وليست فقط علامة مسجلة، إنها عميقة متجذرة، تشكل نسقا يؤطر مسار الذات، ويؤسس رؤيتها للعالم والإنسان والأشياء، باعتبار أن «اللغة وليدة الواقع الاجتماعي والثقافي والعقدي، لكنها حينما تنتقل إلى الذهن تشعر باستقلاليتها وتفرض على الذات الحاملة لها طرائق التفكير» وهذا هو الخطر في تبني لغة ما استسهالا لاستراتيجياتها التي تعتمل منذ الحين الذي تستقر فيه تلك اللغة في الوعي باعتبارها أداة للتفكير.
فإن يفكر الجزائري بالفرنسية، معناه أن النسق الذي يعيشه فرنسيا من حيث الدلالة والرمز والواقع، وبالتالي تتكرس التبعية ثقافيا ضمن الوعي بالتاريخ المسلوب، أو ذاك التاريخ الذي نسجته الهوية الغالبة، وألبسته الهوية المغلوبة، فيصبح «المغلوب أبداً مولعا بتقليد الغالب» ضرورة تاريخية، وهو ما يفسر الأريحية واليسر اللذين أفصحت بهما وفاء شعلال عن مكنونها ونسقها الذاتي، أو نموذجها الخاص، حيث الاستيلاب نموذج قائم في الوعي يمكن حضوره ضمن النسق الوطني، دون أن يشعر باستيلابه لأنه يتمثل ثقافة الغالب وأنماطها الوجودية.

الحرية رديف الهوية

إن الحالة الفرنسوية المتعلقة باللغة التي خلفها الاستعمار كتركة أثقلت الوعي الوطني، تعاملت معها الذات الثقافية الوطنية كعنصر من عناصر الغلبة (المستعمِر) التي تجرد المغلوب (المستعمَر) من مكاسبه، ولعلني أجد هذا المعنى في مقولة كاتب ياسين، إن الفرنسية «غنيمة حرب» فمفهوم الغنيمة لا يعكس بالضرورة ما ذهبت إليه الوزيرة في وعي كاتب ياسين، وهو الفرنكوفوني الفطحل، لأن التفكير في اللغة الفرنسية باعتبارها مغنما، إنما يؤسس توعويا لجزائرية الأدب، في ما سوف تشهده الساحة الثقافية ما بعد الاستقلال، من اختلاف الرؤية حول هوية الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية. إن غنيمية اللغة تضعها في الإطار الموضوعي خارج ذاتي، أي إنها من المكونات التي استعملها بعض الوعي كأداة للتحرر وجب اكتسابها بمهارة تفوق مهارات الناطقين بها أصالة، وفي ذلك يكمن سر تفوق النص الروائي «نجمة» الذي يتعقد منه الفرنسي الأصيل على أساس أن اللغة نقاءها في فرنسيتها وليس في فرنكفونيتها.
لا يمكن لذات داخل العالم منتمية إلى هوية وجماعة قومية/وطنية، أن تؤكد أن عالم تفكيرها يختلف جوهريا عن واقعها كشخصية معرفة في العالم، باللغة والتاريخ والدين والمصير، ويصبح اللسان وسيلة لترجمة متخيل التفكير المختلف. إن هذا المستوى من الواقع الشخصاني الذي يعبر فقط عن القائلين به، يتأرجح ضرورة بين عالمين يتمايزان عن بعضهما بعضا، ويتغلب أحدهما على الآخر باعتبار أن المتغلب هوية قائمة في الشعور، تعكس حالة من التغريب الذي يفصل بين واقعين في الذات، التي تتأسس واقعا منشطرة مفككة غير عارفة كيفيات بناء الوعي، كمنظومة من العلاقات الجوهرية التي تجمع الذات إلى فضائها الجغرا ـ تاريخي، الممهور بكل المسار الوجودي الذي أسسته الذاكرة، واستمرت به الأجيال تكرسه في الواقع كممارسة للشخصية ذات الانتماء والخصوصية.

لا معنى للحرية إذن في ظل ما صرحت به وفاء شعلال، لأن النخب الوطنية التاريخية على اختلاف انتماءاتها ومشاربها ويقينياتها الفكرية والفلسفية، كانت تعتقد جازمة في أن الحرية رديف الهوية، بمعنى أن زمن الحرية يعتبر زمنا لانفصال الذات عن الهيمنة الاستعمارية التي كبّلت الذات الوطنية وقيدتها داخل الإطار الفرنسي المثاقف، أي إخضاع الجزائري لثقافة غير وطنية قصد سلخه من جلده الثقافي الوطني، فمنعت الزوايا والكتاتيب والمدارس الوطنية من أداء مهمتها التعليمية، أي فصلت الكيان الوطني عن أهم مقوماته الوجودية وهي اللغة العربية، فالحرية لم تكن فقط لحظة للسعادة داخل زمن غروب المستعمِر، بل كانت أعمق من ذلك لارتباطها بسعادة جوهرية تتواشج مع الشعور الوطني والقومي بالهوية، باعتبارها الدمغة التي تميز الكيان الوطني الجزائري عن غيره، الذي تعرض لأكبر عملية محو على مرّ التاريخ، لأن الاستعمار الفرنسي في الجزائر كان إحلاليا، إلغائيا واستيطانيا، الهدف منه إلحاق الجزائر بالمجال الفرنسي، فلا شخصية جزائرية هناك سوى ما تكشفه الجغرافيا أو تَسْمية المكان.

الحالة الثورية وأداتية اللغة

يذكر أحمد توفيق المدني في مذكراته «حياة كفاح» الجزء الأول، أنه تعلم الفرنسية في السجن، وطلب من أخيه إحضار «لاروس» وبعد أن اعتكف على «لاروس» لمدة ثلاثة أشهر يبحث نحو الخمسين مرة عن الكلمات التي تغيب عن فهمه في الروايات، إلى أن أصبح يعرف ولا يقول أتقن الفرنسية من حيث يدري أو لا يدري، فاللغة في هذا المستوى تعتبر أداة لتمكين الذات الوطنية معرفة ما يدور حولها باعتبارها ذاتا مهيمنا عليها استعماريا قصد إنتاج آليات التحرر، وما يؤكد ذلك أن أحمد توفيق المدني يضيف، أن الكتاب الثاني الذي طلبه من والده هو «ميمنتو لاروس» ويردف قائلا: «وجاءتني معه تحفة الحياة، لذة الدهر: مصحف القرآن الشريف». فالفرنسية لم تكن سوى المستوى اللغوي الذي يشكل العنصر الأداتي المساهم في عملية التحرر، ولم تكن أداة ثقافو – شخصانية تفرض نمط التفكير الفرنسوي على الذات الوطنية، لأن عنصر الهوية كان مرتبطا بأساسات تكوينه وبنيته، من حيث الدين، اللغة، المصير والتاريخ المرتبطين بحركة الذات في فضاء جغرافي معين بمسار حضاري مميز ومحدد.
تعري اللغة السجينة – التي جعلها أحمد توفيق المدني في تعلمه لأبجدياتها وهو مكبل طبقا لما يُملى بواسطتها من مراسيم احتلالية للأرض وإنهائية للروح وسجنية للجسد – ما يمكن الادعاء به بأن الفرنسية لم تكن نمطا للتفكير، بل أداة للمواجهة. نتعلم اللغة كي نمدد من مساحة سياحتنا الفكرية والأدبية في العالم الذي نكتشفه من أمكنتنا المعتادة، فيتسع مجال العقل وينبثق الشعور بالتسامح والقبول والتعايش. أن نتعلم لغة أخرى في السجن، تحت الهيمنة الاستعمارية معناه أن أحمد توفيق المدني تعلم أداة للتحرر أكثر منها عنصرا للتفكير، وهو ما تختزنه الشحنة المنطقية في عبارة كاتب ياسين بأن الفرنسية «غنيمة حرب».
يمثل التواصل إمكانات التفكير الوطني داخل أروقة اللغة، مهما اختلفت طبيعتها، ولا يمكن إغفال الصراع بين الاتجاهين العربوفوني والفرنكوفوني في الجزائر. يحدث ذلك لاعتبارات تاريخية وثقافية، لكن لا يبرز هذا الصراع في حديته التي تشكل «الظاهرة» لأن سياق الفرنكوفونية في الجزائر المستعمَرة كان يسير مسار التحرر والهدف الواحد، فمالك بن نبي وأحمد طالب الإبراهيمي ورضا مالك ومصطفى لشرف، على ما بينهم من تباينات فكرية واختلافات جوهرية، إلا إن القصد التاريخي لم يغادر فكرة التحرر والهوية الوطنية في كتاباتهم، ولم يتطرق أحدهم إلى اللغة المغايرة كبنية للتفكير، بل كانت مجرد أداة للتعبير فرضها الظرف التاريخي، بل قد يتاح للفكر الرامز أن يلحظ مسارات التواصل عبر جسر المعنى الوطني في عبارة «ليل الاستعمار» عنوان كتاب عباس فرحات الفرنكوفوني واستمرار المعنى في إنتاجية البديل في شعرية ابن باديس العربوفوني:
«يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب»
فـ«صباح الاستقلال» هو البديل الموضوعي والوجودي، بل الحتمي لـ«ليل الاستعمار».

وعي ومسار كينونة

لا يمكن أن نفكر بلغة الغيرية، وخصوصا تلك الغيرية الحاملة لتاريخية استعمارية، فالعلاقة الإنسانية بين الشعوب تنبني أخلاقيا على التعارف، كما يحددها المبدأ القرآني: «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» فقانون التعارف يقتضي ضرورةً تعلم اللغة المختلفة لسهولة التواصل وتحقيق أهداف التعارف في التسامح والقبول بالآخر والتعايش. في المسار الفكري والوعي بالذات للغة، لا يمكن أن نغفل مأساة الروائي الفرنكوفوني الجزائري مالك حداد حين أعلن عن منفاه في اللغة، لأنه لم يستطع أن يجد في الفرنسية رنين «أما» أي أمي، حينها كف عن أن يكون فرنكوفونيا واعتبر اللغة الفرنسية منفاه، وتوقف عن الكتابة بها، للشعور الرهيب بالفراغ الوجودي عبر هيمنة اللسان المغترب داخل اللغة النافية للوجدان، لكن الفرنسية كانت بمثابة أداة المواجهة لتحقيق الحرية، في روايته «سأهبك غزالة» فالغزالة هنا تعكس العطش للحرية.

عبدالحفيظ بن جلولي

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

اليونسي محمد

خوروطو

لا يتقنون لا الفرنسية ولا العربية ولا عبو الريح ! خرطي فوق خرطي تحت خرطي إلى جانب اخراط والجميع خوروطو !