ينتظر التونسيون بلهفة حلول شهر رمضان المعظم وذلك بالنظر إلى الأجواء المتميزة التي يعيشونها في هذا الشهر الفضيل سواء تعلق الأمر بالعبادات أو بالسمر والترفيه، وأيضا بالنظر إلى الذكريات الجميلة التي عاشوها سابقا في هذا الشهر وحنينهم إلى الأيام الخوالي. فقد اقترن شهر رمضان المعظم في تونس بالفرحة والبهجة والسرور واللقاءات العائلية والمسامرات التي امتزجت بالعبادات والروحانيات، فأنتجت شهرا بنكهة خاصة يختلف عن غيره من شهور السنة ويتميز عنها على كافة المستويات.
بين العمل والتسوق
يستهل التونسي يومه في شهر رمضان بالعمل والدراسة حيث لا تتوقف الأنشطة في هذا الشهر الكريم فيتغير توقيت العمل من نظام الحصتين إلى نظام الحصة الواحدة، ليعود الجميع إلى بيوتهم على الساعة الثانية أو الثالثة بعد الزوال. فيذهب البعض إلى الأسواق لشراء ما ينقص البيوت من خضر وغلال ولحوم وتوابل وألبان وحلويات وخبز ومعلبات غذائية ومشروبات وغيرها لإعداد وجبة الإفطار، ويجابه التونسي عادة بغلاء أسعار المواد الغذائية.
لقد كانت هناك وعود بتخفيض أسعار الكثير من المواد الأساسية والمنتوجات الفلاحية لكن الأسعار واصلت ارتفاعها لأسباب عديدة وأفسدت فرحة التونسيين بشهرهم المفضل الذي ينتظرونه على مدار العام. فاللحوم الحمراء على سبيل المثال، والتي ارتفع ثمنها بسبب غلاء الأعلاف وندرتها، وبسبب تهريب جزء هام من قطيع الأبقار والمواشي إلى دول الجوار، قيل أن أسعارها ستنخفض بفضل التوريد لكن الأسعار حافظت على ارتفاعها خلال الأيام الأولى من شهر رمضان.
وللإشارة فإن الإعداد لوجبة الإفطار يبدأ عند الساعة الثالثة بعد منتصف النهار أو بعد ذلك بقليل ويتواصل إلى حدود موعد أذان صلاة المغرب الذي يكون في حدود الساعة السادسة والربع بتوقيت تونس خلال الأيام الأولى من هذا العام. وتتضمن الوجبة عادة طبق الشوربة التي يتفنن التونسيون في إعدادها ولديهم فيها أنواع كثيرة لعل أشهرها شربة الفريك، ويتم أيضا إعداد البريك والسلطات التونسية ومنها السلطة المشوية وسلطة أمك حورية وغيرها، مع طبق رئيسي وأحيانا طبقين، ومن أشهر الأطباق التونسية الكسكسي بالسمك أو بالأخطبوط أو بلحم الخروف.
ولا تغيب التمور عن مائدة إفطار التونسيين وخصوصا «دقلة النور» التي تصدرها تونس إلى الخارج منذ سنة 1890. وتحدثت عن دقلة النور كتب الفلاحة التونسية القديمة منذ عصور ما قبل الميلاد على غرار مدونة عالم الفلاحة ماجون القرطاجي وتضمنتها رسوم النقود القرطاجية القديمة.
ومن أشهر الحلويات التي تتضمنها موائد إفطار التونسيين المقروض القيرواني الأصيل الذي يعود إلى عصر دولة الأغالبة في القيروان ومنها انتشر في بعض دول المنطقة وتحدث عنه المؤرخ الأندلسي الحسن الوزان المعروف بليون الأفريقي في كتابه «وصف أفريقيا». وقد أخبر الوزان بأن الحلويات تنوعت لدى أهل تونس ومنها المقروض، وتحدث عن عالم مغربي أكل المقروض القيرواني فقال من شدة إعجابه بهذه الحلويات التقليدية ما مفاده كيف تنامون يا أهل تونس وفي بيوتكم المقروض؟
ليل رمضان
بعد الإفطار وأداء صلاة المغرب يجتمع التونسيون حول جهاز التلفاز لمشاهدة المسلسلات والبرامج الرمضانية ومنهم من يخرج إلى المقاهي لاحتساء قهوة قبيل صلاتي العشاء والتراويح. وبعد التراويح والعشاء يعود البعض إلى المقاهي للسمر مع الأصدقاء إلى موعد السحور، ويتناولون سحورهم في مطاعم ومقاه شعبية تعد وجبات خاصة، بينما يخير البعض الآخر العودة إلى البيوت لقضاء السهرة مع العائلة وتناول السحور في البيت. وهناك من يختار حضور المهرجانات الثقافية ليلا على غرار مهرجان المدينة، أو يختار التجوال بالمدينة العتيقة حيث أصوات تلاوة القرآن تنبعث من كل الأزقة وحيث تنتشر المساجد في كل مكان خصوصا بالمدن العربية الإسلامية العتيقة على غرار مدن تونس والقيروان والمهدية وغيرها. كما تفتح المحال التجارية والأسواق التقليدية أبوابها وتعج الشوارع بحركة الأشخاص والسيارات في جو بهيج وتخرج بعض الأسر لشراء ثياب العيد وحلوياته باكرا تجنبا للاكتظاظ في النصف الثاني من شهر رمضان.
وعلى غرار الصعوبات الحاصلة في التزود بمواد غذائية غلا ثمنها مثل اللحوم الحمراء فإن المواطن بات يجد صعوبة في توفير ثمن ثياب العيد وحلوياته مع كثرة النفقات والمصاريف وتدهور مقدرته الشرائية في السنوات الأخيرة وارتفاع الأسعار وعدم قدرة الدولة على ضبطها. ورغم ذلك فإن الكثير من التونسيين ممن ضيقت عليهم الحكومات المتعاقبة في السنوات الأخيرة معيشتهم بشكل لافت، يجدون الحلول من خلال المتاح، ويوفرون، وإن بصعوبة بالغة، حاجيات العيد من ثياب وحلويات ومصاريف شهر رمضان الذي يرتفع فيه الإنفاق بشكل كبير.
فهناك من يتداين، وهناك من يحسن التحكم في ميزانيته من خلال اقتناء ما يتناسب مع ما بحوزته من مال، وهناك من ضعاف الحال من تصله مساعدات أهل الخير في إطار مد تضامني بين أبناء الشعب الواحد. وبالنهاية يمر شهر رمضان رغم كل الصعوبات ولا تبقى منه سوى الذكريات الجميلة والحنين للحظات البهجة مع الأهل والأقارب والأصدقاء، وللحظات الروحانية من صلاة وصيام وقيام وقراءة قرآن.
ويأتي شهر رمضان هذا العام بالتزامن مع امتحانات الثلاثي الثاني بالنسبة للتلاميذ في المرحلتين الإبتدائية والثانوية وطلبة بعض مؤسسات التعليم العالي التي تعتمد نظام الثلاثيات الثلاث، خلافا للكليات التي تعتمد نظام السداسييْن. وبالتالي فإن الحركة تبدو أقل من المعتاد بعد الإفطار بما أن العائلات التونسية التي تقدس التعليم إلى حد المبالغة أحيانا، منكبة على مراقبة مراجعة الأبناء لدروسهم استعدادا للامتحانات، وبالتالي فمن المرجح أن تزداد الحركة خلال النصف الثاني من الشهر الفضيل مع انتهاء الامتحانات وانطلاق عطلة الربيع.
مسؤولية الدولة
يقول الباحث في علم الاجتماع التونسي هشام الحاجي في حديثه لـ«القدس العربي» أن شهر رمضان بالنسبة للتونسيين هو أفضل أشهر العام والمحبب إلى قلوبهم ومن يحكم البلاد مطالب بتوفير أفضل الظروف للمواطنين حتى يصومون ويفطرون ويتعبدون ويتهجدون ويتسامرون ويتنزهون. لكن الحكومات المتعاقبة في السنوات الأخيرة، فشلت، بحسب محدثنا، في توفير الظروف الملائمة للتونسيين للاستمتاع بهذا الشهر الفضيل بسبب عدم نجاحها في تحسين المقدرة الشرائية للمواطن والتخفيض في أسعار المواد الاستهلاكية.
ويضيف محدثنا قائلا: «التونسي قد يتسامح معك على مدار العام بسبب عدم توفير حاجياته الاستهلاكية وبأسعار مناسبة لكنه لا يتسامح أبدا إذا كانت إحدى السلع مفقودة في رمضان وخصوصا السلع المرتبطة بإعداد وجباته وأطباقه الرئيسية التقليدية مثل البريك والشربة والكسكسي وغيره. لقد أصبحت أكلات رمضان أيضا مقدسة في وجدان التونسيين وتستمد قداستها من قداسة شهر رمضان وبالتالي ليس مسموحا أن تغيب هذه الأكلات عن الموائد تحت أي ذريعة من الذرائع التي يقدمها أولو الأمر على غرار الاحتكار ووجود الوسطاء والمضاربين وغيره.
هناك جهود بذلت للتخفيض في الأسعار قبل شهر رمضان لكنها لم تكن كافية ولم تحقق النتيجة المرجوة ليجد التونسيون الراحة النفسية التي تمكنهم من قضاء شهرهم المفضل في أفضل الظروف. يبدو أن الدولة لم تعد بتلك القوة التي كانت لها في السابق والتي كانت تمكنها من فرض أسعارها ومن الضرب بقوة على أيدي العابثين من المحتكرين والمضاربين والمتحكمين في مسالك التوزيع والتخزين».
تعليقات الزوار
لا تعليقات