احتل موضوع إخراج القوات الأجنبية من ليبيا موقعا مركزيا في الاجتماعين اللذين جمعا الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثتها إلى ليبيا، عبد الله باثيلي إلى كل من رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة بشكل منفصل. والمهم أن الاجتماعين جاءا في أعقاب جولة قام بها باثيلي على كل من السودان وتشاد، للوصول إلى اتفاق معهما على استعادة مرتزقتهما من ليبيا. لكن لم يُعرف ما إذا كان هناك التزامٌ جديٌ من الحكومتين للمساعدة في إجلاء مواطنيهما المسلحين من ليبيا. كما لا يُعرف مدى قدرة الدول المعنية على السيطرة على مرتزقتها وفرض الانضباط عليهم، بما في ذلك إجبارهم على مغادرة ليبيا. والمُلاحظ أن باثيلي اجتمع في السودان وتشاد مع رئيسي الدولتين ووزيري دفاعهما للخوض في الموضوع مع من «يملكون» هذا الملف، لدى الطرف المقابل. ويندرج هذا المسعى الأممي في إطار المبادرة التي أعلن عنها باثيلي الشهر الماضي، والتي قد تُفضي إلى إجراء انتخابات عامة، قبل نهاية العام الجاري، وفق تنسيق دولي.
ويتوافق مسعى باثيلي هذا مع نتائج اللقاء الذي جمع أخيرا، كافة عمداء ليبيا، بمشاركة 140 عميدا، من جميع المناطق، تحت رعاية حكومة الدبيبة، ما اعتبره المراقبون تأكيداً على وحدة ليبيا واستقرارها. كما يتوافق المسعى الأممي أيضا مع الزيارة التي أداها باثيلي أخيرا، إلى مدينة سبها كبرى مدن الجنوب، والذي فقدت الحكومات المتتالية السيطرة عليه، بعد انهيار غالبية مؤسسات الدولة هناك في 2011. وتعزيزا لهذا الاتجاه كانت اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 مُركزة على مسألة «إخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا». واجتمعت اللجنة العسكرية في مدينة بنغازي، على مدى يومين، وبمشاركة القيادات العسكرية والأمنية والميدانية من شرقي ليبيا وغربيها، بحضور باثيلي. والمُلاحظ أن هذا الاجتماع هو الثالث بعد اجتماع أول في تونس في مارس/آذار، وثان في طرابلس. واتفق الحضور خلاله على توحيد الصف لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة خلال العام الجاري. كما أكدت القيادات العسكرية والأمنية المشاركة (أكثر من 20 من الضباط السامين) التزامها بما نتج عن الاجتماعين الماضيين. وتعزز هذا المسار باجتماع القيادات العسكرية من الجانبين الخميس في بنغازي، برئاسة الفريق محمد الحداد والفريق عبد الرازق الناظوري.
وكانت تصريحات الناظوري لافتة، إذ أكد أن أبناء المؤسسة العسكرية لديهم القدرة على تجاوز الخلافات والدفاع عن سيادة وسلامة أراضيهم، ومشددًا في الآن نفسه على أن «الجيش الليبي شرقًا وغربًا وجنوبًا، بعيدٌ كل البعد عن التجاذبات السياسية، ولن يكون أداة لأي طرف سياسي». أما الفريق الحداد فتطرق إلى وحدة المؤسسة العسكرية ومشاركتها الفعالة في الانتخابات المقبلة، مُتعهدا خلال الاجتماع نفسه، بـ«المحافظة على وحدة التراب وحرمة الدم ومدنية الدولة» مُضيفا «سنكون مساندين لشعبنا واختياراته في إنجاز انتخابات نزيهة، وحامين لها، عندما يتفق الليبيون». ويجوز القول إن هذا المسار يلتقي مع الطرح الأمريكي للحل السياسي في ليبيا، باعتبار واشنطن صاحبة القرار الفعلي في الملف الليبي، فالمبعوث الأمريكي السابق إلى ليبيا جوناثان واينر، يعتبر أن الجهود الأمريكية لتحقيق الاستقرار في ليبيا، ينبغي أن «تشمل توحيد المؤسسات واستخدام الموارد الطبيعية والثروات لصالح الشعب الليبي». أما مساعد وزير الخارجية الأسبق لشؤون الشرق الأوسط ديفيد ماك، فأكد أن أمريكا تحض القادة الليبيين على التعاون مع جهود الأمم المتحدة، لتحقيق عملية سياسية موحدة، تؤدي إلى انتخابات بحلول نهاية العام، و«تحقيق قدر أكبر من الاستقرار والأمن لليبيين وشركائهم الاقتصاديين الغربيين».
في هذا السياق يُعتبر الهاجس الأكبر للأمريكيين حاليا ليس ليبيا، وإنما احتواء التمدد الروسي في القارة الأفريقية عموما، وفي منطقة الساحل والصحراء خصوصا، المُتاخمة للحدود الليبية الجنوبية. ويرى واينر في هذا المضمار، أن إيجاد نظام وطني لمراقبة الحدود، وقوات شرطة محلية، خاضعة للحكم المدني، جميعُها عناصر طبيعية في أي حكومة وبلد عاديين. واستطرادا يعتبر الأمريكيون، مع عالم الاجتماع المعروف ماكس فيبر، أن على الدولة في ليبيا أن تستعيد احتكارها للسلاح الشرعي، وتنزعُهُ من أيدي الميليشيات، في إطار جيش موحد. ومن الواضح أن الروس سجلوا نقطة جديدة، خلال مناكفتهم مع أمريكا في الملعب الليبي، إذ استقبلت موسكو أخيرا النائب الثاني لرئيس مجلس النواب الليبي عبد الهادي الصغير، والنائب جلال الشويهدي، اللذين اجتمعا في موسكو مع رئيس لجنة العلاقات الدولية بمجلس الدوما، رئيس «الحزب الديمقراطي الليبرالي» ليونيد سلوتسكي، وتباحثا في الأوضاع السياسية في ليبيا، بحضور السفير الروسي لدى طرابلس، من دون إعطاء تفاصيل أكثر عن فحوى الاجتماع. غير أن استقبال الوفد في ظل الوضع الراهن يُعطي مؤشرات عن بعض تداعيات حرب أوكرانيا على بلدان مثل ليبيا.
لكن هناك من أكد أن زيارة الوفد الليبي إلى روسيا رمت لقطع الطريق أمام مبادرة باثيلي، من أجل إبقاء وسائل الحل التفاوضي حصريا في أيدي مجلس النواب وقسم من المجلس الأعلى للدولة. وينبني هذا الخيار على اشتراط المجلسين تنحية عبد الحميد الدبيبة من رئاسة حكومة الوحدة الوطنية. إلا أن خصوم هذا الأخير سبق أن حاولوا إزاحته من رئاسة الحكومة، ومنح الثقة لحكومة موازية برئاسة فتحي باشاغا، لكنهم أخفقوا. ومعلوم أن مندوب روسيا في مجلس الأمن الدولي، سارع فور تقديم باثيلي إحاطته في جلسة مجلس الأمن، المخصصة لليبيا، إلى التحذير من «أي تسرّع في إجراء الانتخابات المنتظرة».
وكان المقاتلون القدامى ضد نظام معمر القذافي تشكلوا إبان نهاية الحرب الأهلية الأولى (2011-2014) في كتائب، أطلقوا عليها اسم «كتائب الثوار» وقُدر عددها آنذاك، أي في ظل المؤتمر الوطني العام (2012-2014) بما بين 100 و300 كتيبة تضم 125 ألف مسلح. ثم ارتفع العدد بعد ثلاث سنوات إلى قرابة 1600 ميليشيا/كتيبة، تضم جميعا ما بين 200 و250 ألف عنصر. واندلعت مواجهات عنيفة، بعد انتخابات 2014 التي فاز فيها حزب «تحالف القوى الوطنية» برئاسة الراحل محمود جبريل، بين القوى الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر، التي سماها «عملية الكرامة» من جهة، وميليشيات مصراتة (ثاني أكبر مدينة) التي تضم جماعات الإسلام السياسي، من جهة ثانية. وخاضت الأخيرة معارك عنيفة في إطار عملية «فجر ليبيا» لإجلاء القوات المتحالفة مع اللواء حفتر عن منطقة الزنتان (غرب). وأجبرت ضراوة المعارك البرلمان الذي انتُخب في 2012 على اتخاذ مقر مؤقت له في مدينة طبرق (شمال شرق) وما زال فيه إلى اليوم. وأنشئ في مصراتة مجلس عسكري للتنسيق مع غالبية الأجسام المسلحة ذات الاتجاه الإسلاموي. كما أنشئ مجلس مماثل في بنغازي، ثم في طرابلس. وباتت المجالس العسكرية في المدن الكبرى، تملك دبابات ومدافع ثقيلة ومدرعات، كما لو أنها جيش مواز. ولوحظ أنه كلما تعمقت الخلافات وتوسع الشقاق بين الفصائل الليبية، تزايد الاستقواء بقوى خارجية.
لكُل مُسلحوه
بهذا المعنى يبقى جلاء القوات الأجنبية عن كافة الأراضي الليبية قبل الانتخابات، شرطا يُعلن الجميع تبنيهم له، غير أن كثيرين يعملون على خرقه، بعد أن أصبحت لكل لاعب مسلحوه المدافعون عنه. وعليه، يؤكد متابعو الملف الليبي أنه لو كان المجتمع الدولي جادا في وضع البلد على سكة الاستقرار، لوجب عليه إظهار عصا العقوبات الصارمة والبدء بتجميد الأرصدة والمنع من السفر وإصدار مذكرات دولية لكل من يعرقل المسيرة نحو الانتخابات، خاصة أن جميع الأطراف باتت غير شرعية، بعدما استنفدت مُددها منذ سنوات، وحان الوقت لكي يسترد الشعب صاحب السيادة، حقه في الانتخاب، ويجدد الشرعية ويُنهي حكم السلطات المؤقتة. وهذا يعني على الصعيد العسكري إخراج نحو ألفي عنصر من مرتزقة «فاغنر» الروس، إلى جانب مئات من المرتزقة السودانيين والتشاديين، من البلد. وستكون هذه المهمة في فزان (جنوب) أعسر منها في المناطق الأخرى، إذ استطاعت القوات الموالية لحفتر السيطرة على قسم شاسع من الاقليم، حيث تنتشر كثير من الحقول النفطية. وباسم مكافحة الإرهاب، اقتنع كثيرون بأن الخيار العسكري، الذي ينتهجه حفتر، يمكن أن يكون وسيلة مثلى للقضاء على الجماعات الإرهابية. كما استعانت قوات حفتر بقوى محلية، وخاصة قبائل التبو، المتخاصمة مع الطوارق لإخضاع شبكات التهريب والمنشآت النفطية لنفوذها. ويتعلق الأمر اليوم أيضا بسحب 13 ألف سوري من مقاتلي جيش سوريا الحر. ويوجد بين هؤلاء أعضاء سابقون في «هيئة تحرير الشام» وهي جماعة سورية قريبة من تنظيم «القاعدة». وفيما تبدو الأمور، على صعيد الخطاب والمواقف المبدئية، وكأن ثمة توافقا بين القوى الدولية والإقليمية، على السير بجد نحو الانتخابات، ما زالت هذه التسوية غير مكتملة، على ما يبدو من مئات الاجتماعات، التي عقدها الرؤساء والوزراء والمبعوثون الخاصون إلى ليبيا. ويُمثل المبعوثون الخاصون كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا ومصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وقطر وتركيا والإمارات. والملاحظ أن تونس والجزائر والمغرب ليست بينها، على الرغم من الأدوار الظاهرة والخفية التي لعبتها في تحقيق التقارب بين الإخوة الأعداء.
وعلى الرغم من وجود ميل دولي وإقليمي إلى تسوية الصراع في ليبيا عبر الانتخابات، التي تأخر إجراؤها سنتين، ما زالت فصائل سياسية تعمل على إفشال المسار، ومن بينها تيار الإسلام السياسي، الذي يُعرف بـ«تيار المفتي» (صادق الغرياني). وكان التيار (اتحاد ثوار ليبيا) عقد مؤتمرا بمدينة الزنتان، منذ أسابيع، أعلن خلاله أنه يعترض على التوافقات الجارية، بدعوى أنه مُؤتمن على مصير الثورة (2011). ويرى أكاديميون ونشطاء أن هذه السباحة ضد التيار، لن تُجدي نفعا بحسب الكاتب ميلاد المزوغي، في ظل التوافق الإقليمي والدولي، و«تيقُن الأطراف الداخلية من انه كفى عبثا بمقدرات الدولة والضحك على الشعب المغلوب على أمره». أما الكاتب عبد الله الغرياني فاعتبر أن الأجسام المسلحة كانت، طوال العقد الماضي، أدوات للتخريب والدمار، ولديها سجلات ضخمة من الانتهاكات والقتل والتعذيب والإخفاء القسري، ولذلك لا يمكنها صناعة السلام أو العمل من أجل تأمين الانتخابات وقيادة البلاد إلى مرحلة الاستقرار، على ما يقول عبد الله الغرياني، مُضيفا «فقط يُمكنها تمثيل ذلك دون عمل حقيقي»… وهو مُحقٌ في ذلك.
تعليقات الزوار
لا تعليقات