تحت عنوان «استراتيجيا الولايات المتحدة لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار» في البلدان التي تشهد صراعات، أحال الرئيس الأمريكي جو بايدن على الكونغرس، قانونا لاعتماده والبدء بتنفيذه، وهو يتضمن خططا جديدة لمنع الحروب وترسيخ الاستقرار، تشمل ستة بلدان بينها ليبيا. وتؤشر المبادرة، التي يمتد تنفيذها على عشر سنوات، إلى الاهتمام الأمريكي المتزايد بتغيير الأوضاع في ليبيا، نحو إنهاء الحرب الأهلية ووضع الأساس لحكومة وطنية منتخبة، قادرة على الحكم وتقديم الخدمات، والحفاظ على الأمن في جميع أنحاء البلد. وتشتمل الخطة على خمسة برامج تجريبية تهدف إلى دمج جميع جوانب المساعدة الخارجية في استراتيجيا واحدة متماسكة، ترمي إلى تحقيق الاستقرار في البلدان المُعرضة للخطر، قبل اندلاع الأزمات.
ولئن أتت المبادرة بعد أيام من زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي بربارا ليف إلى ليبيا، فالمؤكد أنها ليست وليدة تلك الزيارة، وإنما أتت المسؤولة الأمريكية إلى المنطقة لشرحها للقيادات الليبية وحشد الدعم لها. وسيعتمد تنفيذها على الجهود المحلية للحد من العنف في جنوب البلد، كأساس لجهد طويل الأمد، يرمي لدعم بناء نظام ديمقراطي ومستقبل مستقر. ويمكن القول إن الجنوب الليبي (إقليم فزان) خارجٌ عن سيطرة الحكومة منذ سنوات، واستثمرت جماعات مسلحة غياب الدولة هناك لتُحكم قبضتها على المنطقة وتُساوم الحكومة المركزية.
ويسعى القانون إلى تغيير أوضاع دول الصراعات، مُخصصا نحو 200 مليون دولار سنويًا، على مدى تنفيذ الاستراتيجيا، التي حُددت مدتها بعشر سنوات، في خمسة برامج. وترمي تلك البرامج التجريبية إلى دمج جميع جوانب المساعدة الخارجية في استراتيجيا واحدة متماسكة، بُغية تحقيق الاستقرار في البلدان المعرضة للخطر، قبل اندلاع أزمات فيها.
زيارات متتالية
يعمل الأمريكيون على مُسابقة روسيا، غريمتهم الأولى في ليبيا، بخطتهم العشرية. وبالتوازي مع الزيارات المتوالية لمسؤولين أمريكيين إلى ليبيا، وأبرزهم وليم بيرنز مدير وكالة المخابرات المركزية، يعتزم الروس تعزيز وجودهم في ليبيا، من خلال معاودة فتح السفارة الروسية في طرابلس، وتسمية المستعرب أيدار رشيدوفيتش، سفيرا جديدا فوق العادة، مع الإقامة في طرابلس، حيث تعتزم البعثة الدبلوماسية الروسية استئناف العمل بشكل كامل، بالإضافة إلى معاودة فتح القنصلية العامة في بنغازي. وكان القائم بالأعمال الروسي لدى ليبيا، يقيم في تونس حتى الآن.
وحقق الأمريكيون سبقا اقتصاديا على غرمائهم، بعد توصُل شركة زُلاف الليبية لإبرام أول عقودها مع ائتلاف شركة «هاني ويل – يو أو بي» الأمريكية، لإنشاء مصفاة لتكرير الغاز بالمنطقة الجنوبية بقيمة 600 مليون يورو.
وستتعهد المجموعة الأمريكية، بناء على بنود العقد، بإنجاز الأعمال الهندسية الأولية لوحدات التكرير، ومنح إجازات تقنية للوحدات المرخص لها. ويتألف المشروع من مرحلتين الأولى تم التوقيع على العقد بشأنها، أما الثانية فهي محور مفاوضات حاليا لتنفيذ أعمال التركيب والاختبارات النهائية للمصفاة. وسيتدعم تحصيل مثل هذه المشاريع الاستثمارية في المستقبل، بالدور السياسي الذي باتت تلعبه أمريكا على الساحة الليبية، سواء من خلال البعثة الأممية أو من خلال العلاقات الثنائية المباشرة، خصوصا بعد انطلاق تنفيذ «استراتيجيا منع الصراع وتعزيز الاستقرار».
ولإدراك التأثير الذي باتت تحظى به أمريكا في الصراع الليبي، يكفي التذكير بأن المسؤولين الأمريكيين، السياسيين والعسكريين، لم يكونوا يتجاسرون على زيارة ليبيا، على مدى سنوات، بعد مقتل السفير الأمريكي بيتر ستيفانس في قنصلية بلده ببنغازي العام 2012. وكانت الاجتماعات الخاصة بليبيا تتم في الجزائر أو تونس. وعندما أرادت الإدارة الأمريكية في العام 2011 الرد على تهديدات شبكة «القاعدة» في ليبيا، بشن حملات على أوكارها في المنطقة، لجأت إلى عقد الاجتماعات في الجزائر، بمشاركة كبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين الأمريكيين، المعنيين بالحرب على الإرهاب.
أما على الصعيد الاقتصادي، فالأرجح أن الأوضاع ستتحسن في العام الجاري، طبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي، وهي تقديرات مُعتمدة على مشاورات قامت بها أخيرا «بعثة الصندوق للتشاور مع ليبيا» والتي توقعت نمو إنتاج الهيدروكربونات بحوالي 15 في المئة، بعد الرفع من حجم الإنتاج من 1 مليون برميل يوميا في العام الماضي إلى حوالي 1.2 مليون برميل في العام الجاري.
وفي خط مُواز للمشاورات مع بعثة صندوق النقد، ناقش الليبيون أخيرا مع نادر عبد اللطيف محمد، المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي، ملفات قطاع المياه والصرف الصحي وتنويع الاقتصاد الليبي وإيجاد بدائل أخرى، إلى جانب إيرادات النفط. ومن شأن الاستقرار النسبي الذي عرفته ليبيا منذ التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الأول/اكتوبر 2020 أن يُساعد على العمل من أجل معاودة إعمار المدن والمناطق المتضررة والانطلاق في إصلاح البنية الأساسية لقطاعي النفط والغاز، والتي تؤثر سلبا في حجم الإنتاج.
يتضافر هذا الاتجاه الاقتصادي مع تطورات مهمة على الصعيد السياسي أبرزها تواتر الحديث عن جلاء قوات «فاغنر» من القواعد الجوية الثلاث التي تسيطر عليها في ليبيا، وهي قاعدة الجفرة الاستراتيجية في وسط البلد، حيث تتمركز المقاتلات الروسية من طراز «ميغ 29» وقاعدة براك الشط الجوية وقاعدة تمانهنت، بالقرب من سبها، عاصمة اقليم فزان.
قرار الترحيل
ولئن أكدت مصادر إعلامية إيطالية أن مرتزقة «فاغنر» ما زالوا في ليبيا، فإن ذلك لا ينفي أن قرار ترحيلهم قد اتُخذ. وكان مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليم بيرنز ضغط على القائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر ليسحب المرتزقة الروس من ليبيا. ثم عادت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي بربرا آي ليف لطرح الموضوع مجددا على حفتر. والأرجح أنها حصلت على موافقته على السحب، مع اشتراط المحافظة على التوازن، بما يعني ألا تتفوق القوات المدافعة عن طرابلس، عددا وعتادا، على القوات التي يقودها حفتر وأولاده. وسيكون من المهم جدا أن يبني الطرفان المتخاصمان على نتائج اجتماعات القادة العسكريين من الشرق والغرب، الأحد الماضي في طرابلس، برعاية المبعوث الأممي عبد الله باثيلي، في إطار لجنة 5+5 بعدما عقدوا اجتماعا أولا في تونس. والأهم أنهما توصلا إلى عدة نقاط توافق أدرجاها في بيان مشترك، وقررا عقد الاجتماع المقبل في بنغازي. وعندما يتحرك هؤلاء القادة العسكريون، فذلك مؤشر على أن القيادات السياسية، التي تملك سلطة القرار، موافقة على ذلك الخيار الصلحي. وبتعبير آخر فإن تزكية اللواء المتقاعد خليفة حفتر للبحث في توحيد المؤسسة العسكرية، دليلٌ على ضعفه قياسا على مواقفه المُتشددة السابقة. ومن أهم ما ورد في الاجتماع الأمني رفيع المستوى الاتفاق على مواصلة العمل على توحيد المؤسستين العسكريتين من خلال رئاستي الأركان، إلى جانب توحيد المؤسستين الأمنيتين.
تسع نقاط
أكثر من ذلك، أكَّد المجتمعون في طرابلس على تسع نقاط، أبرزها أن يكون الحوار ليبياً- ليبياً، وأن يُرفض التدخل الأجنبي، بالاضافة إلى الالتزام الكامل بكل ما نتج عن الحوار بين القادة العسكريين والأمنيين مع اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 في اجتماعيها الأول في تونس والثاني في طرابلس، مثلما أسلفنا.
وفي تحرُك مُكمل، على هذا المحور، باشر المبعوث الأممي باثيلي جولة هي الأولى من نوعها على دول الإقليم، للاتفاق معها على سحب قواتها من ليبيا، ففي سنوات الفوضى وانهيار مؤسسات الدولة، سيطرت جحافل من المرتزقة على المناطق الحدودية. وتشمل الجولة الحالية لباثيلي كلا من السودان وتشاد والنيجر. وما من شك بأن نجاح مهمة المبعوث الأممي، معطوفا على التقدم المرتقب في توحيد المؤسسة العسكرية، سيُمكنان من سحب القوات الأجنبية، واستعادة ليبيا سيادتها على أراضيها الشاسعة، تدريجيا، نظرا لشساعة الحدود. وسمع باثيلي من المسؤولين في الدول التي جال عليها، استعدادا لدعم الانسحاب المنسق لجميع المقاتلين الأجانب ومعاودة إدماجهم في القوات النظامية، على ما قال في تدوينة على حسابه على «تويتر».
وعلى صعيد مُتصل لوحظ أن خط موسكو بنغازي عاود الاشتغال بعدما توقف منذ فترة تبادل الزيارات بين المسؤولين الروس من جهة والقيادات العسكرية والمدنية في المنطقة الشرقية من جهة ثانية. وأفيد في بنغازي أن وفدا من مجلس النواب الليبي زار موسكو واجتمع مع نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، الذي يعتبر مهندس السياسة الروسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولا تخفى خلفيات المنافسة الأمريكية الروسية في هذا السباق، الذي يسعى كل طرف من ورائه إلى وضع قدم ثابتة في منطقة جنوب المتوسط. ولم يُكشف عن مضمون المحادثات التي أجراها الوفد الليبي برئاسة هادي الصغير، النائب الثاني لرئيس مجلس النواب. لكن الأرجح أنها تطرقت إلى ملف سحب عناصر «فاغنر» الروس من ليبيا، بالإضافة إلى المشاريع الاستثمارية التي يمكن للمجموعات الروسية أن تُنفذها في ليبيا، وخاصة في قطاعي الإنشاءات والبنية الأساسية. وسبق أن زار وفد من المقاولات الروسية طرابلس العام الماضي، وحصد عدة صفقات تخص أساسا مشاريع معاودة الإعمار والانشاءات.
وأتت زيارة الوفد البرلماني البرلماني إلى موسكو في مناخ اتهامات خطرة وجهها محققو الأمم المتحدة إلى موظفين وقادة كبار في الأجهزة الأمنية والأجسام المسلحة، باقتراف جرائم جماعية يمكن تصنيفها في خانة جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية. وبعض هؤلاء مشاركٌ في اجتماعات 5+5 من هنا تأتي الأسئلة التي تتردد كثيرا هذه الأيام، حول مدى قدرة أمراء الحرب على أن يصبحوا صُناعُ سلام؟
تعليقات الزوار
لا تعليقات