يشكل التقرير الأخير الذي صدر عن منظمة العفو الدولية حول الانتهاكات في منطقة الكفرة امتدادًا مخيفًا للخلفية التاريخيّة المتمثلة في تفاقم حوادث العنف وغياب المساءلة في الشرق الليبي، إذ كشفت المنظمة أن كتيبة «سبل السلام» التابعة لحفتر وشرطة الكفرة المرتبطة بها، ارتكبت سلسلة من التجاوزات الصارخة بين آب/ أغسطس وتشرين الأول/ أكتوبر من العام الجاري ضد أفراد من مجموعة التبو، وضمّت هذه الانتهاكات ما هو أسوأ من مجرد التعدي على الحقوق، حيث شملت عمليات قتل خارج القانون، واعتقالًا تعسفيًا، إضافة إلى الاختفاء القسري الذي يمزق الأسر ويزرع الرعب.
ويعكس توثيق المنظمة لحوادث مقتل ثلاثة رجال من التبو في حوادث متفرقة على أيدي عناصر شرطية ومسلحين، فضلاً عن اختفاء ستة آخرين قسراً على أيدي الجهات نفسها، يعكس نمطاً ثابتاً من الإفلات من العقاب يشوّه المنطقة.
وما يزيد الأمر سوءًا تجاهل الشكاوى المقدمة من الأسر للشرطة، التي لم تباشر أي تحقيقات حتى اللحظة، ما يؤكد سيطرة القوات التابعة لحفتر على المنطقة، وهي سيطرة تفرض عليها التزامات قانونية واضحة بحماية حقوق الإنسان، وهو ما تدعو إليه العفو الدولية بضرورة كشف مصير ومكان رجال التبو المحتجزين قسراً، وتأكيدها على ضرورة احترام القانون الدولي، وتلك المطالب ليست سوى صدى لمآسٍ سابقة.
وجاءت هذه الانتهاكات الحقوقية في سياق عام سبقته فاجعة مروعة هزت مدينة بنغازي، تجسّدت في مقتل أب وأطفاله السبعة بإطلاق نار مباشر في الرأس أثناء توجههم إلى المدرسة، وهي حادثة لا تزال تداعياتها تلقي بظلالها الكئيبة على المشهد الأمني والاجتماعي، لتكون بمثابة خلفية مأساوية تُبرز مدى هشاشة الوضع.
اكتُشفت جثث الأب حسن خيرالله شويرف الزوي وأبنائه داخل سيارة في ظروف غامضة، وهو مشهد مرعب وثقته مقاطع فيديو متداولة، وسرعان ما بدأت تتكشف تفاصيلها الأولية لتثير موجة عارمة من الشكوك حول الرواية الرسمية للسلطات.
فقد رجّح مدير أمن بنغازي، صلاح هويدي، فرضية إقدام الزوي على قتل أطفاله السبعة ثم الانتحار، مستنداً إلى تحقيقات أولية وأدلة جنائية وأقوال ذوي المتوفى وزوجاته، ولكن هذه الرواية لم تجد قبولًا شعبيًا أو حقوقيًا، بل قوبلت بتشكيك واسع النطاق ورفض قاطع من مواطنين ومتابعين، وأثارت جدلاً وغضباً عارمين على مواقع التواصل الاجتماعي، مع مطالبات بإجراء تحقيق شفاف ومستقل، خاصة وأن الرواية تبدو واهية في نظر الكثيرين، معطيات تشير إلى أن الوفاة كانت بإطلاق نار مباشر في الرأس، ما دفع المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا للمطالبة بفتح تحقيق عاجل وشامل، مؤكدة وجود مؤشرات واضحة على أنها «جريمة مدبرة»، ومستبعدة الروايات المتداولة حول الانتحار.
هذا التشكيك ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج لتراكم حوادث العنف المتصاعدة وغياب الشفافية في الإجراءات الأمنية والقضائية، لا سيما في الشرق الليبي الذي تسيطر عليه قوات حفتر. إن حادثة الزوي وأبنائه، وإن كانت مروعة في تفاصيلها، إلا أنها ليست حالة معزولة، بل تندرج ضمن سلسلة انتهاكات واسعة النطاق تشهدها البلاد، فتقارير حقوقية دولية ومحلية وثقت استمرار عمليات الاختطاف والاختفاء القسري، والاعتقال والاحتجاز التعسفي، فضلاً عن التعذيب وسوء المعاملة والقتل غير القانوني في مرافق الاحتجاز، سواء أكانت رسمية أو غير رسمية.
وقد أشارت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى توثيق 17 حالة وفاة في مواقع احتجاز في مختلف مناطق ليبيا خلال فترة محددة، مشيرة إلى أن الوفيات حدثت بعد فترة وجيزة من الاحتجاز، ونتجت عن التعذيب والحرمان من الرعاية الطبية، وهو ما يكشف شدة سوء المعاملة والإهمال الذي يتعرض له المحتجزون.
ووجهت تهم ارتكاب هذه الانتهاكات، التي شملت أشخاصاً ذوي إعاقة ونشطاء سياسيين وأعضاء من الطائفة الصوفية، لجهات أمنية ومجموعات مسلحة في شرق ليبيا وغربها. ففي الشرق، كما وجهت المفوضية التهمة إلى فرع جهاز الأمن الداخلي في بنغازي ومجموعات تتبع لقوات حفتر، وهو ما يرسخ مناخاً من الخوف والإفلات من العقاب. وقد أشارت المفوضية تحديداً إلى مقاطع فيديو تظهر تعرض معتقلين لسوء المعاملة والتعذيب في سجن قرنادة التابع للقوات في الشرق، كما تحدثت عن حالة النائب إبراهيم الدرسي الذي اختفى قسرياً وظهر في مقطع مصور وهو مقيد بالسلاسل وتبدو عليه آثار تعذيب.
ويؤكد التقرير السنوي حول حالة حقوق الإنسان في ليبيا استمرار هذه الانتهاكات في غرب وشرق البلاد على حد سواء، مشيراً إلى أن الوضع السياسي والأمني الحالي يقوض عملية الانتقال الديمقراطي والجهود المبذولة للخروج من دورات العنف والإفلات من العقاب. وهو ما جعل منظمة رصد الجرائم في ليبيا تحمل المسؤولية القانونية عن الانتهاكات، بما فيها القتل خارج القانون والاختطاف، لأطراف عدة، منها قوات حفتر وجهاز الأمن الداخلي في الشرق، داعية إلى فتح تحقيقات مستقلة وشفافة في جميع الانتهاكات الجسيمة وضمان محاسبة المسؤولين عنها.
وفي ظل هذه المعطيات، يغدو التشكيك في الرواية الرسمية لحادثة مقتل الزوي وأبنائه أمراً مشروعاً وضرورياً، فالنظام الأمني والقضائي في المنطقة يعاني من تحديات كبيرة تتعلق بالشفافية والمساءلة، وتشير المؤشرات إلى أن العنف بات جزءاً من المشهد اليومي، دون رادع حقيقي، وبات الشارع الليبي، خاصة في الشرق، يترقب بياناً رسمياً من النيابة العامة يكشف ملابسات الحادث ويوضح حقيقة ما جرى، لكن الترقب هذا يصحبه أمل ضعيف في ظل سجل حافل بالإفلات من العقاب.
إن فاجعة الأب وأطفاله السبعة، والانتهاكات اللاحقة التي كشفت عنها منظمة العفو الدولية في الكفرة، تظل شاهداً مأساوياً على استفحال العنف، وغموض الروايات الرسمية، وتؤكد الحاجة الملحة لإرساء العدالة والمساءلة لوقف دورات العنف المتكررة، وكسر جدار الصمت حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي باتت سمة مميزة لمشهد مضطرب تتداخل فيه الأجندات وتغيب فيه الضوابط القانونية والإنسانية، في حين يستمر الضحايا في دفع الثمن الأغلى في ظل مناخ يغلب عليه الخوف والترقب.
تصاعد الانتهاكات في شرق ليبيا

تعليقات الزوار
لا تعليقات