كنت بصدد البحث عن أشياء في محرك «غوغل» فكتبت في خانة البحث عبارة «5 يوليو 1962» بالعربية ثم بالإنكليـزية «05 July 1962». في الحالتين قفزت إلى شاشتي عشرات الروابط في صفحات متتالية تحيل كلها إلى الجزائر وثورتها واستقلالها كأن العالم لم يشهد حدثا آخر في ذلك اليوم، الخميس، من تلك السنة.
بحلول هذا اليوم في 2022 تكون قد مرّت ستون عاما على استقلال الجزائر. لقد سكن هذا اليوم المجيد وجدان الجزائريين وأرواحهم رغم أن وقف إطلاق النار، وبعد مفاوضات عسيرة بين الثورة وفرنسا الاستعمارية، دخل حيّز التنفيذ يوم 19 آذار (مارس) 1962. أما 5 تموز (يوليو) فاختاره الجزائريون ليكون نهاية فرنسا الاستعمارية لأنه يتوافق مع تاريخ بداية احتلالها لهذه الأرض في اليوم ذاته من سنة 1830.
لن أملَّ من مشاهدة صور الأبيض والأسود لعشرات آلاف الجزائريين هائمين في شوارع المدن، وفي خلفية الصور أغنية «الحمد لله ما بقاش استعمار في بلادنا» الخالدة.
تلك الصور تقول كل شيء عن شوق الجزائريين للحرية. وذلك الشوق يقول كل شيء عن حجم ما أذاقهم الاستعمار من ظلم وإذلال.
كان والدي أحد هؤلاء الذين هاموا في شوارع العاصمة وسط ذلك الطوفان البشري. لا زال يحفظ تفاصيل تلك البهجة التي تفوق الوصف. يتذكر أنه لم يعد إلى البيت ثلاثة أيام، ومثله الآلاف. كنّا نمازح والدي بالقول «بينما كنت وأمثالك في شوارع المدينة ترقصون وتغنّون ليلا ونهارا، كان لصوص الاستقلال يقتحمون أفخم الشقق التي أخلاها الفرنسيون في أجمل أحياء العاصمة ويستولون عليها». لم يبدِ أيّ ندم أو حسرة في أيّة لحظة. العكس هو الصحيح، كان فخورا بما فعل مقتنعا كل الاقتناع.
رغم كل شيء.. آلام الفترة الاستعمارية وجراحها الغائرة، إخفاقات دولة الاستقلال وأخطاؤها، أخطاء مختلف الذين حكموا البلاد بعد ذلك اليوم إلى اليوم، لصوصية بعضهم، ديكتاتوريتهم، ظلمهم بعضهم لبعض وللجزائريين، جرائم بعضهم بحق البلد.. رغم التصفيات الجسدية والمعنوية، ورغم المزوّرين وسماسرة التاريخ.. لا شيء يجب أن يقلل من عظمة ما حقّقه أجدادنا الفقراء الأميون البسطاء الجيّاع المتسلحون فقط بإيمانهم بالله وبأن النصر ينتظرهم في نهاية ذلك الليل الطويل المؤلم.
من حق وواجب كل جزائري أن يفتخر ويبتهج بما قدّمه الأباء والأجداد من تضحيات قلّ نظيرها في سبيل تحرير الأرض والإنسان من عبودية وذل وظلم استمرت 132 سنة.
عدا فلسطين، لم يجرِّب مجتمع في المنطقة العربية ذلك الاستعمار الاستيطاني البغيض الذي حاول اقتلاع الجزائريين من أرضهم وذواتهم. كان الاستعمار الأوروبي في شمال إفريقيا والشرق الأوسط أشبه بالسياحة. استقلت مجتمعات في الجوار القريب والبعيد من دون أن تطلق رصاصة ومن دون أن تخسر قطرة دم أو تذرف دمعة. ليس لأن الجزائريين مجانين يسترخصون حياتهم، وإنما لأن طبيعة الاستعمار كانت تتطلب ذلك: إما أن يقتلعك أو تقتلعه. أن ترضى به وتستسلم له، أو تنتفض ولن تعود خطوة إلى الوراء حتى تنتزع حريتك أو تهلك دونها. الجزائريون فضّلوا الخيار الثاني.
يجب أن تكون جزائريا لتدرك عمق هذا الشعور الاستثنائي. من الصعب أن يستوعبه غير الجزائري مهما شرحت له، وقد يبدو له في الأمر خليط من المبالغة والخيال.
أكثر من هذا، أقول إنه من الصعب أن يستوعب جزائري هذه المشاعر إذا لم تتح له فرصة الاستماع عنها مباشرة ممن عايشوا الاستعمار وويلاته وجرائم الفرنسيين بحق شعب أعزل. لذلك لا عتب على الأجيال الجديدة. لن ينجح أحد في تغيير تعلُّق الجزائريين بالثورة وبـ05 تموز (يوليو) مهما قيل عن أخطائها وظلمها للبعض. إنها فوق الشبهات. كان يجب أن تستمر ولو بالأخطاء ورغمها. عظمة الذين صنعوها أنهم جعلوا شعارها «لا أحد فوق الثورة». هذا ما يفسر التصفيات الداخلية. هذه الثورة أكلت حتى أباها، الزعيم مصالي الحاج، لكي تستمر. هذا ما قال لي أحد أكبر المؤرخين الجزائريين (لا أذكر اسمه لأنني لم استئذنه) في تفسير التصفيات الداخلية.
كنت محظوظا أن جلست مع الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد (رحمه الله). استمعت منه بشغف وجوع لقصص عن تاريخ الثورة. بعضها مأساوي وآخر مضحك. كان يتكلم عن شهداء مثل محمد بلوزداد والعربي بن مهيدي ومصطفى بن بولعيد كما يتحدث أيّ متخرج قديم عن رفاق دفعته. كنت أستمع وأبذل جهدا ذهنيا كبيرا لأضع كل واقعة أو موقف في سياقه وظروفه.
النتيجة: كانت الثورة مغامرة خطيرة لكن ضرورية، قام بها شباب من كل الفئات والطبقات والاتجاهات والمستويات الذهنية، فبدت في بعض الأحيان أكبر منهم، وكادت في أحيان أخرى أن تفلت منهم.
اليوم وبعد كل هذه السنين، أقول: لا لوم على جزائري لم يسمع من والده أو جدّه أو خاله قصصا عايشها عن جرائم تفنن الجنود والضباط الفرنسيون في ارتكابها في ساحات القتال وفي السجون ومراكز الاعتقال الجماعي المنتشرة في كل أرجاء البلاد.
لا عتب على أبناء الأجيال الجديدة من الجزائريين الذين لو سألت أحدهم عن بن مهيدي أو العقيد عميروش، يجيبك بكل براءة بأنه ربما لاعب كرة سابق مثلا. هؤلاء لم تصلهم الروايات الأصلية عن فظاعات الاستعمار في القرى والمدن بحق النساء والرجال واليافعين. ولم يجلسوا مع مجاهد حقيقي نام ليالٍ طوال في جبال بوزقزة الوعرة أو في الغابات الموحشة في الونشريس والقبائل جائعا يعانق بندقيته. ولم يُدرَّسوا تاريخهم بطرق تحببه إلى قلوبهم وتجعلهم يفتخرون به.
إذا أضفت إلى هذا أن الأجيال الجديدة تشعر بالغبن وضيق الأفق، توفرت لديك وصفة هائلة للجهل بالتاريخ أولاوالنفور منه ثانيا.
وهذا أحد إخفاقات الاستقلال. لكن مرة أخرى، لا شيء ينزع عن الثورة عظمتها وقدسيتها مهما تعددت إخفاقات الاستقلال. ولا شيء يجب أن يمنع الجزائريين من القول بصوت مدوٍّ: كانت عظيمة واستثنائية.
توفيق رباحي
تعليقات الزوار
لا تعليقات