في حوار شيق له مع الإعلامي الكبير قاضي إحسان عبر راديو “آم”، أكد المحافظ السابق لبنك الجزائر المركزي الاقتصادي عبد الرحمن حاج ناصر، أن النخب الاقتصادية الجزائرية كانت سباقة إلى مراجعة الخيار الاشتراكي الذي تبنته دولة الاستقلال على مدار ثلاث عقود من الزمن في شقه الاقتصادي في بداية ثمانينات القرن الفائت وهذا من خلال ابتكار محطة تلاقي بين التوجهين المتضادين في أيديولوجية التاريخ التصارعية، أي بين النموذج الرأسمالي الطاغي ونظيره الاشتراكي المتهاوي على كل النطاقات والمستويات سميت “المحطة” تلك إذ ذاك بالرأسمالية الاجتماعية، تقطع مع أسلوب تسيير وإدارة وسائل الإنتاج الأولى دون القطيعة مع خلفية التأسيس الجمهوري التي نص وحرص عليها بيان أول نوفمبر وأهمها إقامة دولة ذات طابع اجتماعي، وهو ما لم تستوعبه النخب الحاكمة، قبل أن يستفيق الجميع على نجاح الفكرة في بلد اشتراكي آخر أسمه المجر منتصف الثمانينات.
فكرة الرأسمالية الاجتماعية لم تكن قط مجرد تركيب أو تلفيق مفاهيمي الذي يقفز على حقيقة الأزمة التي كانت قد بدأت تستفحل داخل النظام السياسي بسبب خياراته الخاطئة وتخطيطاته ومخططاته العشوائية في كثير من تفاصيلها، إنما كانت فكرة نابعة من صميم التجربة الجزائرية في الدولة الفتية، إذ تترجم حالة من تصحيحات الضرورية لمسارات تطور جدل الدولة والمجتمع معا وما تداعى عنه من نشوء قطائع عبر كل المستويات.
قطائع سببها الوصاية على روح المبادرة فكرة وحركة التي مارستها ولا تزال المنظومة الحاكمة والجاثمة على صدر قوى المجتمع ونخبه وكوادره ما يحول دون انبساط التغيير السلس وغير الصدامي للمجتمع على كل نطاقات الحوكمة.
وفي ظل هكذا وضع قطائعي مستمر، حال دون حرية المجتمع لينتج خياراته ويتطور بشكل تلقائي بأفكاره ومبادراته وفق تجربته وخصائصه وعبقرية ناشئته من سلسلة أجيال متعلمة، راحت تطفو على السطح فطريات قاتلة تمتد بسمومها إلى كل أعضاء الجسد الوطني، ومنها العضو الحساس المتعلق بأرزاق الناس أي الاقتصاد، إذ انقصل هذا الأخير عن منصوصات وتواصي اللوائح المؤسسة للدولة المستقلة في بيان أول نوفمبر “دولة اجتماعية” وشرع المغامرون بالوطن يقامرون بمصيره من خلال مسارات ومبادرات مشبوهة من الخصخصة المرفوضة داخليا والمفروضة خارجيا في العشرية السوداء، حيث ستباع ممتلكات المجتمع ووسائل انتاجه الجمعية والجماعية بالدينار الرمزي مشيرة إلى بدء الانقلاب على مفهوم الدولة وأساسها الوطني، بعيدا عن أيديولوجية نخب الاستقلال الاشتراكية التي كانت صيحة ديماغوجية أكثر من كونها شيئا أخرا يتعلق بمنهج أو خيار استراتيجي لبناء مجتمع الدولة ودولة المجتمع بالشكل الصحيح.
وبعد عقدين من التكسير العشوائي لنمط انتاج اقتصادي انتهج لثلاثة عقود والعبث بآلياته، لا نزال نتساءل أين هي الرأسمالية الجزائرية التي سوق لجمالها وفائدتها إعلاميا وسياسيا سيقت إليها الأمة بغير إرادة شعبية ولا مجتمعية؟
لا شيء من ذلك تبدى للباحثين والراصدين لمسار تطور الدولة والمجتمع، بل ما اتضح أنه تولد عن تلك الإرادة القسرية في اقتياد المجتمع بشكل أعمى إلى حيث مصالح دوائر خاصة، هو نشوء عصابات المال عوض مؤسسات انتاج خالقة لثورة ومستوعبة لليد العاملة.
شركات وهمية ووهم شركات منتجة سيطرت لا على القرار السياسي فحسب، بل على مصدر القرار ذاته، وهو ما سيعيد المجتمع سنة 2019 إلى منطق الثورة مجددا لهدم ما تأسس من بنيان خاطئ سُمي بالخصخصة أو العبور من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي، وهنا سيضرب المجتمع المنظومة الحاكمة في صميم ويكشف عن أزمتها الداخلية وخلوها من المرجعية السياسية والاقتصادية كنسق حكم شامل واعتمادها على سياسة التوازنات التي حادت عن نطاق الرؤى الأيديولوجية والتنظيمية السابقة بين مختلف مكوناتها من جماعات وشخصيات، وصارت سياسة توازنات بين جماعات مصالح مادية ومالية ستنعت فيما بعد بالعصابات أو العصابة في خطابات الاعلام والسياسة والقضاء.
وهنا تحضرني مقولة لأحد من أفسدوا وكانوا ممن حوكموا بتهمة وتخمة الفساد، عمارة بن يونس، وهو يلوم المجتمع الجزائري على عدم تقبله رؤية بروز أصحاب المال والثروة وأن ذلك يعكس تطور المجتمع.
بن يونس يقف عند حد رفض المجتمع لتلك الثروة المراكمة من هؤلاء، ولا يجتهد في الذهاب إلى العمق حيث السبب، وهو أن المجتمع الجزائري يعي ويشعر بأن نخب المال بلا أعمال تلك التي ظهرت في العشرية السوداء وسمنت فيما تلاها من سنوات، أنها لم تكن من انتاجه الطبيعي، ولا من عبقريته لم تنشأ عن إرادته في التصور والتطور، ولم تعبر عن تطلعاته هذا فضلا عن الخلفية السوسيولوجية لأصحابها ذاتهم الذين ينحدرون جلهم من الشرائح الاجتماعية البسيطة قبل أن يقفزوا بشكل مريع مريب إلى مستوى البورجوازية من غير اتصال بأصولها لا حتى بفروعها سلالة وثقافة !
ما فرض السؤال الكبير، من يقف وراءهم أو أقرضهم ومن أي مصارف أقرضهم حتى صاروا إلى ما صاروا إليه دون أبناء المجتمع الأخرين؟
هكذا إذن يجد المجتمع نفسه في كل مرة بصدد استكشاف عديد مناطق الظلم والظلام التي نشأت فيها مآسيه خارج إرادته وعبقرية أبنائه، فالرأسمالية شأنها شأن كل المبادئ لا يمكنها أن تقفز على خصوصيات المجتمع وهي تجد لها طريقا إليه وهذا لن يتأتى إلا بحضور فعلي وفعال للعقل الوطني من خلال نخب منتجة للمنهج والأفكار وليس للصوص السياسة ممن لا يجيدون غير تسلق أسوار المؤسسات ومناصبها كي يتحلوا إلى بيادق المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية يفرضون رغباتها ومخططتها على المجتمع كان أبشع من جهر بها أحمد أويحيى يوم “ناشد” بباريس رجال المال والاعمال من الأقدام السوداء إلى القدوم للاستثمار في الجزائر، قبل أن يُستقبل هو نزيلا لسجن العبادلة جنوب الجزائر !
تعليقات الزوار
لا تعليقات