إن كان هناك من شخصية تعيش اليوم تحت ضغط هائل فهو فبالتأكيد الفريق السعيد شنڨريحة رئيس أركان الجيش الشعبي الجزائري.. كل يوم يدخل مكتبه وقد حمل في رأسه بركان من أسئلة حارقة مضنية تتقاطر عليه من كل صوب وحدب، كيف أعيد ترتيب بيت المؤسسة بعد الهزات العاصفة التي حدثت داخل المبنى العريق لواحد من أقوى الجيوش العربية والإفريقية؟.. هزات خلفها جنرالات وضباط كبار أنحرفت بهم الطرق وأغوتهم رياح الفساد والنفوذ.. كيف سأرمم التشققات والمعالجات الخاطئة التي أتخذها الفريق الراحل قايد صالح سبيلا وطريقا أثناء توليه قيادة الأركان وما زالت إلى اليوم تبرك على الصدر، وتفتت العقل، وتــتــيه الروح؟.. ماذا علي أن أفعل في مواجهة العالم وهو ينظر إلى أصدقائي الروس يشنون حربا بلا هوادة على أوكرانيا حيث الكل منقسم الرأي والمشورة والموقف؟.. كيف سأوازن وأقيس وأقرر دون الوقوع في مطب الإخفاقات والإستشرافات الخاطئة والنظر القصير وحسابات آنية قد تصفعنا بظلالها وتضبب الرؤية على مستقبل الجيش بل البلد بكامله؟.. هل من أفق واضح للصراع الأبدي والأزلي مع الجيران الذي يمارسون كل ما يقع بين أيديهم من إستفزازات وأكاذيب وتلفيقات لضربنا والتحرش بنا نهارا جهارا؟.. كيف أجعل الرئيس ومحيطه يلتحم معنا دون اللجوء إلى الضرب تحت الحزام.. اللف واللعب المكشوف والمستتر ضدنا؟.
عاد الفريق شنڨريحة إلى واجهات الأحداث بعد أن قلل من ظهوراته وتوارى خلف الستار لتقيم الوضع العام بعد قعقعة التسجيلات التي سربها من قيل أنه المطلع الخارق على أدق الأسرار كتمانا وأشدها خطورة تخص الكثير من المؤسسة العسكرية وقادتها.. (بالعودة إليها وحسب معلومات خاصة فإن جلّ ما جاء فيها مليء بالمغالطات والأكاذيب والإفتراءات المتعلقة بالفريق شنڨريحة وبمعلومات مضللة عن بعض من وردت أسمائهم من كبار الضباط المسجونين، وقد ساعد المدعو بن قرميط في عملية التسجيل 6 من عناصر وحراس السجن، وقد قبض هؤلاء مبلغ ستمئة مليون دينار – حوالي 70 ألف دولار -، أقتسموها بينهم وهم اليوم متواجدين في السجن العسكري ينتظرون المحاكمة)، بدا أن هذه المعلومات الغزيرة وكأنها متاهة كبيرة ولعبة غامضة تدار في أيادي الظلام والظلال والدهاء والمكر والتضليل في ظروف قاسية تمر بها الجزائر.. أشتعلت كالهشيم، ووترت الرأي العام في سلسلة طويلة من الحروب القديمة الجديدة التي تشن ضد المؤسسة العسكرية خاصة منذ تعاظمت وسائل التواصل الإجتماعي وأصبحت ملاذا للرأي والخبر والمعلومة، يصب فيها كل شيء دون رقيب وحسيب، بلا حدود أو ضوابط.. دون تبيان خيط الكذب من الصدق والخطأ من الصواب.
لا يعرف أحدا ما دار في ذهن الفريق شنڨريحة ومحيطه في تلك اللحظة، غير أن الكثيرين توقعوا بداية إنهيار جناح عسكري وتيار تشكل ضمن أطر الدولة الوطنية السيادية داخل المؤسسة بالكاد شحبت ملامحه الضاربة منذ حقبة الرئيس الراحل هواري بومدين، وهو تيار ظل يصارع في حلبات ومسارح وفضاءات أحتكرتها تيارات أخرى متقنعة، أغلبها منسلخة وتائهة عن الهوية والأصالة والتراب المسقي بدماء الشهداء، وهو تيار يجرب اليوم بقوة هادئة تعبيد الأرضية لتصفية الجو وإزالة الضباب والغشاوات.
في تلك اللحظة السريعة المفاجئة زار الرئيس تبون مقر الجيش في لفتة لتأكيد الدعم وتسجيل موقف بروتوكولي، ولجأت بعض الأذرع المتمركزة خاصة في الخارج لبث روايات تعاكس ما قيل وأنتشر، غير أنها كالعادة غرقت في سفسطائيات بائسة دون أن تقدر على إيقاف سيلان الخبر والتسجيلات وكل ماله علاقة بالمؤسسة.. صبت التحليلات والآراء في الداخل على قلتها في بوتقة الإحتشام والخوف دون الكثير من المجازفة والمغامرة، وتعاظم شأنها في الخارج عبر بعض القنوات المعارضة والمواقع الإخبارية.. في حين بقي الفريق شنڨريحة وفريقه داخل أتون الهدوء يتحصنون فيه بقدرة صلبة على الصمت حيالها دون إيلاء الأمر أهمية قصوى.
وهو هدوء مثقل بالدلالات ومشحون بما أعتادت عليه المؤسسة العسكرية منذ نشأتها حيث لا تخوض في أي مسألة ما لم يتم دراسة أبعادها وتداعياتها وإرتباطاتها باللحظة أو بالموقف، ولا يزمجر رجالها بالغضب إلا حين تصل الأمور إلى مستويات تتعدى مجرد كلام وحديث وشائعة يتم تدويرها هنا وهناك، لا تشهر أسلحتها إلا خفية أو من وراء جدر أو تلقى على بساط الرأي العام من خلال ملل وفرق ونحل تتبع بطريقة غير مباشرة وبدرجات متفاوتة هذا الجناح أو ذاك.
ظلت الأدبيات على طول حياة المؤسسة تحتفظ بظهورات نادرة تعد على الأصابع لضباطها الكبار في لقاءات مباشرة مع الصحافة مثل ما حدث مع الفريق الراحل محمد العماري سنوات الإرهاب، أو في حوارات تنسب إلى جنرال محجوب، أو في خطب عسكرية تلقى في مناسبات وطنية أو في بيانات تتوخى التوضيح أو إعلان نصر ما، وفي أفضل حالاتها عمد الجنرال خالد نزار بعد أن تقاعد للعب دور الناطق والمدافع الشرس عليها حين تكالبت التهم والقضايا المرفوعة ضدها في المحاكم الدولية، وإن لم يتم معرفة إن كان ذلك يإيعاز منها أو من أحد أجنحتها أو غيرة مسؤولة منه وهو الذي تربى في أحضانها وعايشها وعرفها وقاسمها أحلك الأيام والسنوات التي مرت عليها.
في المقابل ومنذ التسعينات حاول ضباط آخرين عصاة وفارين ومن يقال أنهم يعرفون أدق تفاصيلها وأسرارها زلزلت هدوءها، نكثوا بقسم الولاء المقدس لها وخرقوا المسؤوليات الأخلاقية تجاهها بل حاولوا تلطيخ الصورة وتكسير هالة الإحترام والتقدير التي يحملها الجزائريين للجيش والكل يعرف المقولة الراسخة الملتصقة به فحين تضيق السبل ولا يجد الفرد الجزائري وظيفة أو شغل يردد عبارة: “نروح نقاجي”، (أي أنخرط في صفوف الجيش).. ليس ثمة تفسير مقنع يمكنه الإحاطة بالأسباب التي جعلتهم يرفعون في وجهها سيف التمرد والعصيان والنكث بالوعود مهما كانت الظروف والمحن والمصاعب، ورجح لاحقا أن هذه الكمشة التي تواجدت خارج الديار أصبحوا مجرد أبواق ودمى بين أصابع قوى غامضة تمتد من الداخل إلى الخارج.
تربع الفريق شنڨريحة، (ولهذا اللقب معنى خاص في بعض مناطق الجنوب الجزائري، فهو مركب من كلمتين: شنڨ- بإضافة نقطة على القاف – أي: يصد، وريحه، أي: يصد الريح)، ذي السحنة الودودة التي تخفي صرامة يقال أنها شديدة، المولع بالشاعر الفلسطيني محمود درويش والسير التاريخية، على رأس أركان الجيش الجزائري بعد أشهر طوال، رواحت عملية تثبيته كل هذه المدة لأسباب غير معلنة، بقيت معلقة في رأس تبون منذ لحظة إنتخابه رئيسا، وبعد موت المفاجئ للقايد صالح قدم إلى المنصب الأكبر سنا والرتبة الفريق بن علي بن علي قائد الحرس الجمهوري، وتردد أنه أراد وضع الجنرال محمد قايدي الذي أنهيت مهامه مؤخرا على رأس الأركان إلتزاما منه وإيفاء بوعده في الحملة الإنتخابية بتشبيب المناصب في كل المواقع والمسؤوليات، غير أن هذا لم يتم، فقلاع المؤسسة العسكرية ليست متاحة ومباحة للقفز فوقها هكذا ببساطة وقرار ورمشة عين، فهناك أطراف وجماعات مصالح ونفوذ، ضاغطة ومتجذرة لا يعرف قوتها وقدرتها هي من تحسم الأمر ويعود إليها بالفعل، وهي من توافقت على الفريق شنڨريحة بعيدا كما قيل عن أعين الرئيس تبون أو من يحيط بالمبنى المهيب لوزارة الدفاع.
لا شك أن ليالي طوالا زحفت في سماء الفريق شنڨريحة بعد موت الفريق قايد صالح وما تلاه من كروب وقلاقل وحراك مندفع لا يلوي على شيء، ولا شك أنه غرق أكثر بعد أن تم تثبيته في المنصب في تأمل التفاصيل والأحداث والأعطاب التي تمكنت من المؤسسة فهي التي تعنيه أول الأمر، أجنحة تتصارع وتتمزق في الظلال، نفوذ مبهم للعديد من الضباط الكبار في مواقع هي أصلا بعيدة عن وظائفهم، وواقع مضطرب ضائقة به نفسه، وفلول تتقنع مرة بالإرهاب ومرة بالجريمة المنظمة، ونيران على أعتاب الحدود.
هكذا راقب الفريق شنڨريحة من مكتبه الأنيق بوزارة الدفاع سرعة تدفق هذه الأحداث، تعقيداتها وتشابكها، وهي بالتأكيد ليست بالمشاهد الحلوة التي تسر لا العين ولا العقل، لم يكن يحتاج فقط إلى قوة خارقة لإستيعابها بل صلابة شديدة وإيمان عميق لا يتزعزع، ومران وتجربة كبيرة في ميدان المعارك سواء التي تخاض مباشرة أو تلك التي تتحرك خيوطها من الخلف والستائر والظلال، وهي مزايا رافقته منذ أن تقلب في مناصب كثيرة ومسؤوليات جسيمة خاصة في زمن الإرهاب، وبعضها الآخر كانت صعبة ليس أخطرها قتاله كما يروى عنه ببسالة في حروب الشرق الأوسط ضد إسرائيل وأستحق عليها أوسمة ونياشين، ضف إلى ذلك تبرمه من كل ما يرمز للمستعمر الغاشم حيث يروى أنه استشاط غضبا بمجرد رؤية أحد أصدقاء إبنه يرتدي “تريكو” بلون العلم الفرنسي، أو حرصه على عدم إرتباط أبناءه بسلطته ونفوذه حيث رفض رفضا قاطعا أن تجمع ابنته الطبيبة بين وظيفتين عامة وخاصة إما هذه أو تلك مثلما قال لها بحزم.
منذ التسعينات برز كبار الضباط في الجيش الجزائري، بروز استتر خلف الصورة، وصفوا بالصقور والنواة الحقيقية للقرار الفعلي في كل ما يخص سير الدولة وأجهزتها، لا صوت يعلو فوق صوتهم، كانوا أشبه بالأطياف التي تظهر وتختفي، لا تحس وقع أرجلهم على الأرض إلا حين الضرورة وإشتداد البأس، حتى أن قائد جهاز المخابرات الأسبق الفريق محمد مدين المعروف بتوفيق غدا لوحده أسطورة مقدسة، صاحب خوارق، شبح مرعب، يخيف بمجرد أن ينطق بإسمه، وحين تظهر صورته ولو بالغلط تقلب الدنيا وتقعد، لامس الحديث عنه الخرافة المطلقة وبلغت عنان السماء حتى أطلق عليه أحدهم في غمرة الصراعات “رب الدزاير”.. كانوا هم في الغالب الأعم أصحاب السلطة والسيطرة على كل شيء، وهو ما كان معروفا لدى الرأي العام، لا تخفى منها خافية، خاصة أثناء تولي الجنرال المتقاعد خالد نزار زمام الجيش مع زمرة من أهم القادة الكبار لا يتعدى عددهم ستة أو سبعة أنفار.
بخلاف هؤلاء خالف الراحل الفريق قايد صالح العرف والعقيدة والتقليد المتبع والمنول من هؤلاء.. خرج للعلن.. كان كمثل “بلدوزر” ضخم يجرف ما أمامه ومن يقف في وجهه وفي طريقه، ومن يعارضه يلقى الويل والثبور.. لا ترف أمامه عين ولا يعصى له أمر، طاعة مطلقة متفسخة لا تلوي على شيء.. أحتل المواقع وحده خاصة بعد إقالة أو إستقالة الراحل بوتفليقة في لحظة حراك عاصف من تاريخ الجزائر.. كان يرى في زملائه الضباط أعداء وخصوما هيمنوا وأستباحوا حرمة المؤسسة وفسدوا، فعالج الأمر بطريقته الخاصة بدون تكتيكات أو خطط أو إستراتجيات تلعب وراء الستار، أندفع دون مواربة أو مجاز، كان بليغا في الردع، متجمها في الصدع، ولم يكن كسابقيه يتخفى حتى لا يمسوا أو يشار إليهم بالبنان.
وعندما تكلم الفريق شنڨريحة بعده ظهر غالبا أكثر رزانة وهدوءا وتبصرا، وإصطف في خط ما قلنا أنه النزعة السيادية البومدينية التي بسطت أجنحتها على المؤسسة العسكرية طوال سنوات ثم أزيحت وأريد لها الإنطفاء ببطء، اتخذت الأمور عنده منحنى ثان لم يعبر عنها فقط بالكلمات وجمل مسطرة في خطبه يلقيها بفصاحة قلّ نظيرها عند كبار ضباط المؤسسة، بل يجمعها ضمن عنصرين حاسمين مشتبكين بقوة في مساره وحياته العسكرية: الميدان والتقانة العلمية، بالإضافة إلى رؤيته الفاحصة والقاطعة لقضايا كبرى لا رجعة فيها كالنزاع مع المغرب ودفاعه المطلق والمستميت عن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، أو في إنحيازه الناعم مع الروس في حربه الأخيرة مع أوكرانيا، حيث كما هو معلوم تربى وتكون وتعلم في المدارس العسكرية الروسية وأورثته هذه الأخيرة رموز ومعاني السلاح والحرب.
يوغل الفريق شنڨريحة في تخوم التحولات العصيبة التي تمتد في الجزائر داخليا وخارجيا، يراها بعين العسكري المتمرس في الميدان، ويحاول قراءتها بعقل السياسي الذي يتريث حتى يعرف على أي أرض يمشي، أعلى أرض مليئة بالألغام فيحذر أم على أرض مفعمة بالورود فيندفع؟.. ينجح هنا ويخفق هناك، يمد يديه إلى عسكري في جبال نائية باردة تمرغ في النار وهو يواجه بصدره الإرهاب والقتل الغادر، يحييه بأبوة وفخر ومن وراءه زملائه ويحرص عليهم كما يحرص على أبناءه، أو يسمع في كل مناسبة صوت المؤسسة عاليا حتى تختفي من واجهتها العنوان الغامض: “الصامت الأكبر” الذي وسمت به من قديم العهد وجديده، ربما بهذا يريد تدشين وإرساء عهد جديد للعقيدة العسكرية وفك طبيعتها التقليدية بنقلها من مفاهيم بليت وشاخت إلى فضاءات أكثر عصرنة وحداثة وحضور في المشهد العام للحياة والواقع الهادر بكل تفاصيل التغير والحرية، وهو في كل هذا ليس وحده بل تلتف حوله نخب وعقول جزائرية محضة تعلمت في المدارس الجزائرية وفي أرقى مدارس العالم، أبرزهم قادة المخابرات بفروعها أعيد الإعتبار لبعضهم بعد أن كانوا لوقت قريب مهمشين وآخرين رقوا في الرتب وصعدوا على سلالم المجد، ثم يأتي بعده قادة النواحي، يليهم كبار الضباط الذين يشكلون مكتبه أو يجاورونه، لينتهي تحت غطاء سياسي مدروس يظلله بتؤدة وحذر.
فهل سينجح الفريق شنڨريحة في تغير صورة المؤسسة بعد أن تجاذبتها الشائعات والتسريبات والقيل والقال، وأغرقتها الصراعات العليلة في مياه راكدة.. هو ذا سؤال القدر ومجازه الذي يمضي به إلى حيث يجب أن لا يغير فقط صورة المؤسسة بل عليه أن يغير صورة وطن بكامله.
تعليقات الزوار
لا تعليقات