حتى وهي في السجن ما زالت الوزيرة السابقة للثقافة خليدة تومي تثير الجدل، ليس فقط بسبب القضايا التي هي متهمة بها، بل لرمزيتها الحاضرة دوما ضمن سلسلة عريضة من نساء خضن صراعات مريرة ضد مجتمع جزائري بطريركي مسيطر على كل شيء.
هنا عودة تتقفى خطاها بعد صدور الأحكام القضائية الأولية في حقها.
في رأس كل من ألتقى الوزيرة السابقة خليدة تومي تتزاحم الصور وتتركب عن إمرأة طافت حولها الحكايا والروايات والقصص بشتى الألوان والأطياف. امرأة ناضلت بشراسة ضد مجتمع معقد وتقليدي، ذكوري مهيمن وسليط، لا يرى المرأة إلا محشورة في زاوية مظلمة تحيط بها خيوط سميكة من الضعف والحقرة والهوان، واجهته بالكثير من الشجاعة والتحدي حتى وهي في أحلك أيامها اليوم داخل السجن ما زالت، حسب مصادر، هي هي على نفس القناعة بل قناعتها أصبحت أكثر صلابة وقوة.
لا تطلب خليدة من محاميها بالإضافة إلى معلومات وتفاصيل قضيتها، لا تطلب في خلوتها الصامتة سوى الكتب، في كل زيارة تتلقى كمية من الكتب حسب ما يسمح به نظام السجون، ولو كان الأمر بيدهم لحملوا إليها مكتبة كاملة متنوعة ومختلفة العناوين، فوتت أيامها ولياليها تقرأ وتطالع بنهم، شغوفة بهذه العادة التي لم تغادرها منذ أن وعت وقدرت أن لا شيء أمتع من رفقة تكون فيها الكتب سادة الدنيا، لا شيء يفتن وقتها بين الجدران القاسية للسجن سواها.. سوى هذه الكتب التي تجعل من الوقت سرمدي وما عداه سقط متاع.
أتذكر أنها في يوم ما قالت لي وهي في خضم أمواج الضغط الفادح والعراقيل الجمة التي تقف في وجه إحدى التحضيرات الثقافية الكبرى التي شهدتها الجزائر، وبعد أن أنهت مكالمة عاصفة محتدمة مع الأمين العام للحكومة حول هذه المسائل، قالت لي هكذا: كل يوم أنا في صراع مرير من أجل أمور تبدو في ظاهرها معقدة ولكنها في الحقيقة جزء من طبيعة النظام المتكلس للإدارة وبطء حركتها مع هكذا تظاهرات كبرى تفاجئهم وتتجاوز ركودهم وحتى لا يفهمونها إطلاقا، لا يفهمون أن جوهر الفعل الثقافي يحتاج إلى مرونة وبساطة وروح لا تقاتل من أجل توافه بل من أجل أن تسمو الثقافة على كل شيء.
فهمت من حديثها أنها تتكلم عن أمور لوجيستيكة تتعلق بالمصاريف والأموال. وأضافت أنها تلجأ لحلحلة هذه المسائل عن طريق ما هو مشرع لها في القوانين كوزيرة يسمح لها تفويض خاص في الحالات الإستثنائية بالإمضاء بشكل رسمي، "وقد فعلتُ ذلك في الكثير من المرات على وثائق ومحررات وقرارات من أجل أن أسرع الأمور ولا تتعطل خاصة لما تكون المواعيد هامة متعلقة بالإلتزامات الدولية للجزائر، وهي محفوطة بالعشرات أو أكثر في ديوان الوزارة". وقالت مازحة أنها أعطت تعليمات للسيدة زهيرة ياحي مديرة ديوانها آنذاك، تقضي بملء قفة السجن بالكتب في حالة ما إذا حدث وأن سيقت إليه جراء إقدامها ولجوئها لهذه الصلاحيات.
وتشاء صروف الأقدار الغريبة أن تجد خليدة نفسها في السجن برفقة ما أحبته طوال حياتها، سلال كتب، وما لم تتوقعه يوما ملفات قضائية وقضايا شائكة تخص تسييرها لقطاع الثقافة متهمة بها إلى حين.. وهي نفس الأقدار ربما التي دفعتها في زمن ما إلى أحضان النضال المرير سواء في جمعيات نسائية لافتة وغاضبة أو في أطر حزب رفع شعار الديمقراطية والعلمانية، وسينقلب قدرها مرة أخرى ويقلبها في قلب النظام ودواليبه المشتعبة وزيرة لمدة 12 سنة، على قطاع لا يقل أهمية عن حرائق السياسة وهمومها بل ناره أكثر لهيبا وحساسية ألا هو الثقافة.
كلما عاد اسم خليدة تومي وظهر وتكرر، إلا ومر ببال الكثيرين ما فعلته طوال سنوات سيدة على وزارة الثقافة، تتردد عبارات التأسف على الأفواه وفي الأوساط الثقافية والفنية والنخب، أصدقاء وخصوم عن تلاشي تلك الديناميكية وتبدد الوهج الذي عرفه فضاء الثقافة خلال كل السنوات التي قضتها هناك في قلعة الوزارة بالعناصر.
بعكس كل وزراء القطاع الذين استوزروهم في عهد الرئيس الراحل بوتفليقة، تكاد تكون خليدة تومي الوحيدة التي استبسلت في حرب بلا هوادة من أجل الثقافة، قادتها ضد البيروقراطية الفجة، وشح الموارد التي تقطرها الدولة في فم هذا القطاع الواسع، وقصر نظر النافذين وأصحاب القرار في فهم الدور الحقيقي الذي يمكن للثقافة أن تلعبه في مفاصل المجتمع من تقدم ونمو وحتى ثروة.
بدت خليدة في تلك الفترات الصاخبة من عمر الجزائر بعد أن خرجت هذه الأخيرة من قسوة الإرهاب والدمار.. بدت شخصية لافتة ونادرة في الخضم الهائل الذي لا يسمع فيه صوت سوى صوت الرجل. كانت مفعمة بالحيوية والإجتهاد وعلى درجة عالية من التجربة الميدانية الخصبة، خاضت بقسوة معترك الدفاع عن حقوق المرأة، ومالت إلى تحدي المكون الديني والعقائدي والتقليدي والذهني الذي كان يضرب بأستاره وظلاله على حضور المرأة. فهي عورة وهي مصيبة وهي الفتنة وهي سبب المشاكل. كانت تلك هي المسطرة التي تحيط بجسد المرأة وروحها. لا أحد كان على إستعداد للمواجهة أو حتى للإحتجاج بقوة على كل هذا أو قول "لا" مرفوعة عاليا ضد الحقرة والتهميش والهيمنة الذكورية على كل شيء.
لم تتحرّج خليدة من شتى الأوصاف التي ألصقت بها هنا وهناك: فهي مدخنة عربيدة وسكيرة وملحدة وكافرة ونبتة ناشزة في حقول العادات والتقاليد. فرنكوفونية تخدم مصالح فئات معينة بهم هوى غربي فرنسي بالتحديد، ذنب من أذنابهم الكثر المنتشرين في كل موقع هام وحساس. لها أهداف مريبة لتخريب القيم وتهديم الأخلاق، وهي تسلك في ذلك مسلك مخالف للأعراف والدين. تهم عدوانية كالها لها خصومها الذكور وحتى من نسوة المدينة والأرياف والقرى والمداشر.
كل هذه الخلفيات زادت من شهرتها حتى غدت ضيفة وحاضرة بقوة في بلاطوهات التلفزيونات خاصة خارج الوطن. مبشرة برؤيتها الجذرية لتغير الأوضاع الثابتة المقدسة الطوباوية التي تعيشها المرأة بخاصة وتعدتها إلى طرح مفهومها للدين وجوانب الحياة اليومية التي يعيش ضنكها المجتمع الجزائري.. كانت تمرق في صلب المعارك غير آبهة بالخطر الذي وضعها في قوائم القتل من طرف الجماعات الإسلامية المتطرفة، تلقت الضربات تلو الضربات.. أرادوا لها أن تستسلم أو تنحني أو تسقط، غير أن عنادها كان كالصخر، ومشاكستها لا تني تزداد حدة وإحتداما خاصة بعد أن أنضمت إلى حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية. هناك كان نضالها أكبر وأشرس. وهو ما دفعها لأن تكون رقم صعب وخطير داخل الحزب لا يستغنى عنها بما أكتسبته من تجربة قاسية متجذرة معتركة بتراب وهواء ونار وماء الحياة والحرية التي عاشتها بكل جوارحها منذ أن نشأت في حضن عائلة محافظة بل ابنة زاوية دينية من الأشراف كما رددت في العديد من المناسبات حيث تشبعت بالفضائل والأخلاق وإحترام كل ما يمت للإسلام بصلة، تحررت بفضل هذه التربية الصارمة التي كانت ممزوجة بكل ما هو تقليدي وحداثي وعصري دون القفز على الحدود والمسافات.
استوعبت الحالة فرشح منها الذكاء والهمة والفطنة والمقاومة، وأحكمت قبضتها على ما تريده وما تخطط له وما رسمته لنفسها ضمن مسار الأحداث العصيبة المتشعبة الغنية التي مرت بها الجزائر، فكانت ضمن كوكبة هائلة من النخب التي حاولت أن تفرد رؤية أخرى مصقولة بالدم والدموع لما يجب أن يكون لتحسين الواجهة والمعنى، ووقفت مع غيرها من النساء في وجه الظلام والبؤس والتخلف والإزدراء.
تمركز نضالها حول وجود المرأة ككينونة مستقلة، ومهما كان الثمن الذي عليها أن تدفعه، فيجب أن تدفعه وهي مؤمنة بقيمته دون خوف أو حسابات ضيقة مغلقة، حتى وهي تـُـطلـق مشاريع النضال داخل الحزب وإحتوائها من طرف النظام، انفردت شخصيتها بقدر من الجرأة والإقدام، تحارب، تقاوم، وتثير المعارك من أجل أن تكون الثقافة رديفا للخبز والماء والمسكن، وهو ما خلق لها عداوات ومناوشات وصدامات حتى مع زملائها الوزراء والولاة وأكبرها في أعين الرئيس الراحل بوتفليقة المحب أيضا للفكر والثقافة والفن والشعر والكتب، وحظيت بثقته وهو المعروف بصعوبة أن يـُسترضى، وفـرّ لها هوامش وفسحات كبيرة للنجاح والتألق والبروز وفعل العجائب داخل قطاعها، حتى لو لم يرق ذلك في الأعين، ويستحلى في الألسن المبلبلة التي كانت تتحين الفرص للطعن والتجريح والتهويل وتهوين ما كانت تفعله وتقوم به في سراء وضراء الوزارة والساحة الثقافية.
على مدار سنوات قضتها خليدة تومي في وزارة الثقافة سعت لهندسة مشهد مفتوح في وسط ثقافي معقد ومتنوع المشارب والتيارات والشخوص والإهتمامات والطموحات، غير راض، دوما بكّاء و"شكّاء"، وملتو، وغير مطمئن البال، مستعرض وعريض، منكفئ على ذاته، مكتف بروحه، ونمّام، لا يعجبه شيء، ولا يفرح لغيره، ويتمنى أن تبقى الأمور على حالها خرقاء ورديئة، وسخيفة. إن أعطيته فأنت صديقه وإن منعت عنه فأنت عدوه. الشاعر غاضب والكاتب رافض والمسرحي متمرد والسينمائي متجهم والفنان يائس. لاحقتها هذه الصور المنتشرة في الوسط الثقافي هنا وهناك، وكانت تراها على الجانبين: المعرب والمفرنس وإن بدرجات متفاوتة. عندما لم تكن تحسن النطق بالعربية هاجمها المعربون وفرح بها المفرنسون، وعندما تعلمت العربية بغضها المفرنسون وأحبها على مضض المعربون. لم يشفع لها لا هؤلاء ولا أولئك. عندما أقيمت تظاهرة ثقافية كبرى إحتفاء بالمفكر فرانز فانون، أندهشت من خلو قائمة المتدخلين من المعربين. قلت لها عندما استعانت بي من أجل تزويدها ببعض الأسماء المعربة المهتمة بفكر فرانز فانون: ربما لا تعرف اللجنة العلمية لتحضير الملتقى التي كان يشرف عليها سليمان حاشي أحد أهم أذرع التيار الفرونكوفيلي الغامض وعـرّابهم.. لا تعرف الوسط المعرب لذلك ربما ليسوا مسؤولين عن الأمر. قالت لي: ليس لأنهم لا يعرفون بل لأنهم لا يريدون للعربية أن تكون حاضرة ولا يرغبون في رؤية وجوه المعربين.
كانت تتحدث عن هؤلاء الذين شكلوا طوال سنوات -وما زالوا على كل حال- العصب والنفوذ المطلق على مفاصل الفعل الثقافي والفكري. تدرك جيدا مقاصدهم وأهدافهم، خــبِـرتهم وعاشت معهم وعايشتهم، لذلك لم تفتح معهم جبهات حروب بل وضعتهم على خط واحد أمام تيارات أخرى موجودة، وحاولت أن تنصف الكل قدر ما أستطاعت لكي تفك العقد المستحكمة في مسامات هذا الصراع الأبدي والأزلي بين هذه التيارات، وما التظاهرات الثقافية الكبرى المرتبطة بالثقافة العربية الإسلامية التي جرت في عهدها إلا دليل ساطع على هذا التوجه المكشوف على مقومات الأصالة المتراكمة في عمق المجتمع المغلف بطبقات من الغش والضباب وكل ما يحجب النظر الحقيقي له، وعمل هذا التيار بقوة من أجل أن تتقهقر الكثير من أحلام الأجيال الجديدة التي نبتت في ظروف قاتلة، وحاولت أن تبرهن على خصوصيتها وتميزها وقوة ما تقترحه من أفكار ومشاريع ورؤى جديدة.
نظرة بسيطة فقط للإستحواذات الثقافية التي سيطر عليها هذا التيار سنجدها تتمثل خاصة في قطاع السينما حيث أولا الأموال الكبيرة وثانيا الترويج الخفي لإملاءات قادمة من وراء البحار، حتى ولو كانت هذه السينما في الظاهر تعبر عن الواقع والراهن، إلا أنها كانت تخفي في ظلالها سياسات مريبة ودعايات مزركشة للمستعمر الفرنسي مثل ما هو مطروح في العديد من الأفلام التي أنتجت خلال هذه السنوات، بينما تركت مثلا الملتقيات الأدبية إلى المعربين حيث لا نفوذ فيها ولا نتائج كبرى يمكنها أن تتحقق من وراءها عدا اللقاءات الحميمية كما يصفها الكثير من روادها والشعر الباهت الذي يقرأ بآهات وأنات على ضوء الشموع في وضح النهار.
بقيت خليدة دوما في خط نيران صديقة وعدوة تهدأ قليلا ثم تتصاعد مرات بالمجان ومرات على حق، وكانت عرضة لخيانات عارية مثلما حدث لها مع أمين الزاوي الذي استقدمته من صحراء النسيان، وثقت به، ووضعته على رأس المكتبة الوطنية وكذلك فعلت مع زوجته ربيعة جلطي حين عينتها مديرة مركزية. أبهرها، وحط في عينيها الضوء المفقود لمسير ذكي ومثقف لامع، خلق حالة إستثنائية وهو يدير المكتبة مع فريق قوي متكون من شباب مثقف خجول نادر، أعطوه من أعمارهم ووقتهم الكثير، وصنعوا من المكتبة صرحا ونبراسا شعت منه الثقافة والفكر والفن، وغدت محجا للكل يتهافتون عليها وينتظرون مواعيدها بشغف وحب. غير أنه كان يقلل من شأنهم في العديد من المرات، وانتكسوا جراء وعوده الكثيرة التي كان يطلقها في وجوههم كلما واجهوه بالظروف الحياتية القاسية التي كانوا يعيشونها.
كانت تفاخر به أمام الكل، صغيرا وكبيرا، إطاراتها وموظفيها، وفي أوساط القوم وعليتهم، وأمام الكتاب والشعراء. غدا في لحظة من رجالها الذين تتكئ عليهم، تستشيره، وتأخذ برأيه، حتى أنه كان وراء تعيين العديد من مدراء الثقافة المعربين بعد أن كانت هذه المناصب توزع تحت الطاولات ضمن دائرة ضيقة. غير أنه في لحظة فارقة رأى أنه أكبر من أن يسعه كرسي المكتبة، وبدأ يلعب سريا في الكواليس، نسج الخيوط، وخطط، وناور مع بعض الزمر الباغية التي كانت تحيط بالرئيس الراحل بوتفليقة وهم في الغالب ينتمون إلى منطقته.
همس بليل، ودس، وتكلم بإفتخار وعلو ونرجسية مقيتة أنه من صنع مجدها، أرسل بعض التقارير المهمة والخاصة لا إلى مكتب الوزيرة مثلما يقتضيه العرف الإداري بل كان يبعث بها مباشرة إلى الرئاسة، لا ينام لا في الليل ولا في النهار كلما تسربت أخبار عن تعديلات وزارية وشيكة حيث كان يتصل بالصحافيين للإستفسار إن كانت عندهم معلومات عن اسم الوزير القادم للثقافة. غير أن ما لم يدركه بعد أن عمي بصره وتفاخم غرور بصيرته أن خليدة تومي كانت تعرف كل هذا بالتفصيل الممل. لم تكترث لما كان يقوله ويفعله من ورائها، بل حز في نفسها طعنة الخيانة والخداع الذي جاء منه، في الوقت الذي كانت معه صافية الذهن والروح. لم يراوده الشعور بالذنب عندما أقالته بل طغى ندم صامت وقالت عنه أنه مثال صارخ عن مثقف مغشوش.
غادرت خليدة تومي الوزارة بعد أن نفثت في روح الثقافة أنفاسا جديدة، وبنت ما رأته أنه الأنسب لها. رضي من رضي وسخط من سخط.. جاء من بعدها آخرون لفوا وحاولوا أن يديروا دفة الثقافة في الإتجاهات المعاكسة لما قامت به. نجحوا أو أخفقوا ربما. ولكن محاولاتهم تلك كانت مجرد إحماءات وتمارين ستبقى خارج ما فعلته ذات يوم في الميدان الفسيح للثقافة.
تعليقات الزوار
لا تعليقات